الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الحرية عند جون ستيوارت ميل وحدود سلطة المجتمع على الفرد

إن مفهومَي الحرية السياسية (الليبرالية) والاستقلالية الفردية يرتبطان ارتباطاً وثيقاً باسم جون ستيوارت ميل، الفيلسوف البريطاني، بحيث لا تذكر الليبرالية إلا و يذكر اسمه معها. وعلى الرغم من أن الحرية مصطلح استخدمته البشرية منذ أزمان بعيدة، إلا أنّ ميل هو الذي طور مفهوم الحرية من المعنى المحدود والمباشر، وهو التحرر من العبودية الجسدية، إلى المفهوم المتداول في زماننا هذا، وهو الحرية السياسية والاجتماعية والاستقلالية في اتخاذ القرار. فما هو مفهوم الحرية عند جون استيوارات ميل؟ إليكم هذا المقال.

بدأ تطور مفهوم الحرية حين ظهرت الحاجة إلى تقييد سلطة الحاكم على المجتمع، وذلك للحد من طغيانه على شعبه، فكان الحل بضمان الحقوق السياسية للأفراد وبإقامة الضوابط الدستورية. كان مفهوم الحرية المتداول آنذاك يقتصر على جعل السلطة الحاكمة تنبثق من اختيار دوري للمحكومين، وذلك لأن الشعب ليس بحاجة لتقييد سلطته على نفسه. هكذا، راجت المطالبة بالديمقراطية والمشاركة الشعبية، حتى جاء ألكسي دي توكڨيل وعرض ثغرة من ثغرات هذا النظام، وجون ستيوارت ميل الذي وضحها وأوجد حلها.

كان دي توكڨيل أول من نبّه إلى مشكلة طغيان الأغلبية، وذلك في كتابه "الديمقراطية في أمريكا"، وهي التي تميل إلى فرض رأيها على الأقلية ومن ثم على الفرد فتشكل تهديداً خطيراً للحرية. إن الأغلبية التي يحذر منها كل من دي توكڨيل وميل ليست بالضرورة أغلبية عددية، بل إنها في الغالب المجموعة الأكثر إيجابية في المجتمع أو الأكثر نفوذاً فيه، وطغيانها، بنظرهما، أشد وطأة على الأفراد والأقليات من طغيان الحاكم على الأفراد؛ فعندما يصبح المجتمع بمثابة الطاغية الذي يقيد حرية أفراده ويتحكم في قراراتهم السياسية والشخصية، فإنه يملك وسائل تمكنه من التغلغل في حياة الناس الخاصة بحيث لا يترك لهم مجالاً للإفلات.

تكمن خصوصية فلسفة ميل في وضعها للقاعدة التي تحدد سلطة المجتمع على الفرد، وهذه القاعدة هي نواة الفكر الليبرالي المعاصر. يرسم ميل حدود سلطة المجتمع على الفرد عن طريق تفريقه بين نوعين من الأفعال: الأفعال التي يتعدى أثرها الفرد القائم بها، وتلك التي لا يتعدى أثرها الفرد نفسه، ليستنتج بأن للمجتمع الحق في تنظيم الأفعال من النوع الأول فقط، أما الأفعال من النوع الثاني، فإن تدخل المجتمع فيها يؤدي إلى طغيان الأغلبية. إن تفرقة ميل بين هذين النوعين من الأفعال هي بمثابة القانون العام الذي يضع الحد الفاصل بين الحرية الفردية وبين التنظيم القانوني، أي بين حق الفرد في الاستقلالية والخصوصية وبين مسؤوليته تجاه مجتمعه، بين حقوقه وواجباته. يركز ميل في تعريفه للحرية الفردية على مفهوم الضرر، فالفرد حر في أفعاله ما لم يسبب ألمًا أو أذى أو ضررًا لفرد آخر، ومالم يقصر في واجباته.

لاقت حرية الفكر والمناقشة اهتماماً بالغاً من قبل ميل، وهي تعتبر مثالاً جلياً على الحد الذي تقف عنده سلطة المجتمع والقانون على الفرد. يدافع ميل عن حرية الفكر والمناقشة بوضعه منافعها ومضار عدم الأخذ بها. يبدأ حجته بالزعم بأن صلاح المجتمع يتأتى من صلاح الفكر، وصلاح الفكر لا يتم إلا بفتح باب المناقشة الحرة ليتسنى للمجتمع تصفية الأفكار المطروحة وتبني الأصوب منها. يطرح ميل مبدأ اللاعصمة، فيقول: إن فرض رأي ومنع النقاش حوله هو ادعاء بكون هذا الرأي هو اليقين المطلق، والادعاء بامتلاك اليقين المطلق هو ادعاء بالعصمة من الخطأ، والعصمة من الخطأ مرفوضة بدليل التاريخ الذي يسرد لنا تغير المعتقدات والأفكار من جيل لآخر (أي في جيل سابق قد تكون فكرة ما بمرتبة اليقين، ويتضح للجيل التالي لها بلامعقولية absurdityهذه الفكرة ذاتها).

ومبرر ميل الثاني لحرية الفكر والمناقشة هو بأن للعقل البشري خاصية ذهنية تمكنه من التطور والتقدم، وهي خاصية تصحيح الأخطاء التي لا تعمل عملها إلا بتوفر وسائلها، وهي المناقشة الحرة. ويرى ميل بأن تقييد الفكر والمناقشة سيؤدي إلى تبني الناس لعقائد دون البحث في قواعدها المنطقية، وذلك لعدم وجود الحاجة لتبرير آرائهم للغير، مما يجعل هذه العقائد ميتة؛ أي عدم مناقشة الرأي قد توقع متبنيه في تناقض العمل بعكس مقتضاه. يضيف ميل بأن شيوع الآراء لا يعني صحتها، أي لا توجد علاقة بين كون رأي معين يتبناه أغلبية وبين كونه صوابًا، ويستدل على ذلك بحادثة الجلجثة التي صلب فيها المسيح وحادثة إعدام سقراط، مبيناً أنه في الحالتين كان رأي الأغلبية ظالمًا. وفي نهاية حجته، يبين ميل أن حرية الفكر والمناقشة هي في جميع الحالات الحل الأمثل: ففي حال وجود احتمال خطأ الرأي الشائع، تكون المناقشة فرصة لمعرفة الصواب الذي يمكن لطرف آخر تقديمه لنا، وفي حال صحة الرأي السائد تعمل المناقشة على تحدي متبني هذا الرأي فيعمل على تقوية حجته وتعميق فهمه لرأيه. وفي حال خطأ الرأييَن المطروحَين، أي، في حال امتلاك كل طرف جزءًا من الحقيقة، يتم باجتماعهما تكوين الحقيقة كاملة.

المرجع:

جون ستيوارت ميل. أسس الليبرالية السياسية. ترجمة أ.د.إمام عبدالفتاح إمام وأ.د. ميشيل متياس. مكتبة مدبولي: ١٩٩٦