الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

النهر والإنسان... صداقة قديمة حان الوقت لإعادة إحيائها

تشكل المياه مورداً أساسياً للحياة عند توفرها بكمياتٍ كافيةٍ ونوعيةٍ ملائمةٍ لوجود الإنسان وحاجاته المتنوعة في مجالات الانتاج الاقتصادي حيث لا يمكن إنشاء وتطوير الزراعة والصناعة وتحقيق نمو حضري فعال بدون توفر كميات كافية من الموارد (A.S. Goodman & D.C Major 1984). ارتبطت الأنهار والمنشآت المقامة عليها بعلاقة تاريخية مع النمو الحضري منذ العصور القديمة، فقد نشأت أولى التجمعات الحضرية على أطراف المياه من ينابيع وبحيرات وأنهار ووفرت للإنسان مياه الشرب ولبت احتياجاته الزراعية والصناعية والخدمية وإمكانية النقل الملاحي والحماية الطبيعية (Adler 2007).

ومع دوران عجلة الثورة الصناعية أصبح العالم بمعظمه يعيش في المناطق الحضرية من مدن وضواحيها ففي العام 1900 كان 190 مليون نسمة يعيشون في المدن مما شكل في حينه 10% من سكان العالم، أما في عام 2000 باتت هذه النسبة تزيد على 50% (C.G. Boone & A. Modarres 2006)، وتبعاً لـ (2012 Simsek) فإن 75 % من البشر في العالم يعيشون في مراكز المدن أو حولها ويُتوقع بقاء معدلات التزايد السكاني في هذه المناطق عند مستويات عليا نتيجة التوسع العمراني وهجرة سكان المدن إلى الأرياف، ونتيجة لذلك باتت المدن محط اهتمام جهود التنمية حول العالم.

كيف تطورت علاقة الإنسان مع النهر؟

تركزت الحضارات الأولى التي امتدت بين النيل والهند على ضفاف الأنهار، واعتمدت جميع الحضارات التي تلتها من رومان وبيزنطيين ومسلمين على الماء كعنصر مركزي، كما حافظت الحضارات التي نشأت في منطقتنا على علاقة خاصة مع الأنهار بالرغم من ازدياد المخاطر والتحديات التي تواجه هذه العلاقة. ومع ازدياد عدد سكان المدن والتغيرات المناخية ازدادت الآثار التي تخلفها هذه التجمعات الحضرية على البيئة الطبيعية والموارد المائية، فقد استخدم الإنسان الأنهار واستغلها منذ القدم بأوجهٍ متنوعة كإدارة النفايات الصلبة والسائلة والنقل مما أدى لتدهور الحالة الطبيعية لمعظم الأنهار، إضافة للتلوث الناتج عن المصادر السكنية والزراعية والصناعية (نقطية وغير نقطية) فإن السطوح المحيطة بالنهر في المناطق الحضرية غير نفوذة مما يتسبب بزيادة الغزارات الفيضانية وزيادة التلوث المحمول من الطرق والسطوح المصمتة. (Simsek 2012)

بدأ الاهتمام بإعادة تأهيل مجاري الأنهار منذ النصف الثاني من القرن الماضي لأسباب متعددة أهمها الصحية والبيئية وفي العقد الأخير أصبح الاهتمام منصبّاً على نوعية المياه واستدامة المورد المائي وبالتالي تحسين الفهم العام لطبيعة العلاقة بين النهر والمنطقة المحيطة به والمجتمع ككل وبما أن مشاكل الأنهار لا يمكن عزلها عن النظام المائي الذي يحويها أو عن احتياجات المناطق الحضرية وسكان هذه المناطق القريبة فقد أصبح التوصل إلى مقاربة جديدة لحل مشاكل الأنهار ضرورة ملحّة بحيث يتم أخد جميع هذه العوامل بالحسبان، وباتت عملية تقييم الآثار البيئية لأي مشروع مرتبط بالمياه أمراً شديد الأهمية في إطار عمليات التخطيط المستدام.

درس Simsek (2012) التسلسل التاريخي لتطور طبيعة العلاقة بين الإنسان والنظام النهري خلال القرن الأخير وتبين النقاط التالية المواصفات التي ميزت كل مرحلة:

 في أواسط القرن العشرين كانت الأنهار لا تزال في حالة طبيعية أو شبه طبيعية وكان ينظر إليها على أنها مكب للنفايات الصلبة والسائلة ومصدر لخطر الفيضان.

 مع النمو الحضري السريع في الخمسينيات والستينيات كان الاهتمام الأول منصباً على منع الفيضانات بتوسيع وتقويم المجرى ورفع الضفاف إلا أن هذه العمليات والمشاريع بالغت أو قللت من قيم وتأثير خشونة المجرى الناتجة عن الرسوبيات مما أدى في بعض الحالات إلى نتائج سلبية (G.M. Kondolf & E.A. Keller 1991)

 في السبعينيات ركزت أعمال الإدارة النهرية على التحكم بالفيضانات واستغلال المياه تبعاً للاحتياجات المختلفة مما تسبب في تدهور الحالة البيئية للأنهار وفقدان وظائفها الطبيعية وأهمها قدرتها على التنقية الذاتية وتكوينها كمجال حيوي للعديد من الأحياء إضافة للمظهر الطبيعي الذي كانت تتميز به.

 في بداية الثمانينيات ومع انحسار الخطر الظاهر للفيضان بدأ استغلال المساحات التي كانت تتعرض للغمر وتحولت تدريجياً إلى طرقات ومرائب ومساحات مزروعة وحدائق ومناطق سكنية.

 ومع نهاية الثمانينيات ظهرت الحاجة الاجتماعية لتحسين البيئة النهرية والمظهر العام فتم إنشاء مسارات للمشي والدراجات الهوائية والحدائق الخضراء على طول مجاري الأنهار والمساحات الموازية لها.

 منذ 1990 بدأ اعتماد تقنيات تستهدف تحسين النهر كنظام متكامل واستعادة وظائفه كمجال حيوي.

 مع بداية القرن الواحد والعشرين أخذت الإدارة النهرية نقلة نوعية في فلسفتها حيث باتت تستهدف تحسين العلاقة المتبادلة بين المجتمع البشري المحيط بالنهر وبين البيئة النهرية (C.W. Kim 2006).

يمكن إجمال بعض هذه التغيرات في هذه الفلسفة بالنقاط الموضحة في الجدول التالي:

والجدول التالي يوضح باختصار التسلسل التاريخي لتغير أسلوب التعامل البشري مع النظام النهري (Simsek 2012)

إن المستوى الذي وصل إليه العلم ووعي الإنسان تجاه المسائل البيئية أدى لظهور مجموعة من المفاهيم الحديثة في مجال الهندسة النهرية قد يكون من أهمها على الإطلاق مفهوم إعادة تأهيل الأنهار. إذا أردتم التعرف إلى هذا المفهوم والاطلاع على عدد من المشاريع العالمية الهامة في هذا الإطار فإننا ندعوكم لترقب المقال التالي من هذه السلسلة.

المصادر:

المصدر الرئيس:

- Simsek, Gul (Ed.) (2012): Urban River Rehabilitation as an Integrative Part of Sustainable Urban Water Systems. 48th ISOCARP Congress 2012. Turkey. هنا

مصادر إضافية:

- Adler، Overcoming Legal Barriers to Hydrological Sustainability of Urban Systems، in Cities of the Future: Towards integrated sustainable water and landscape management (Vladimir Novotny and Paul Brown، eds.، IWA Publishers 2007) هنا

- Goodman، A.S. & Major، D.C. (1984): Principles of Water Resources Planning. New Jersey: Prentice-Hall. هنا

- Boone، C.G. & Modarres، A. (2006): City and Environment, Urban Stream Restoration Techniques. Center for Watershed Protection, Philadelphia.

- Kondolf G.M.، Keller E.A. (Ed.) (1991): Management of Urbanizing Watersheds. California Watersheds at the Urban Interface. the Third Biennial Watershed Conference. University of California. هنا

- Kim C.W. (2006): River Restoration in Korea. هنا