الفلسفة وعلم الاجتماع > أعلام ومفكرون

مبدأ الشك وأثر ديكارت فكرياً

قد كان لديكارت أثر كبير ليس فقط بما أتى به من أفكار تعمل على عدم التسليم إلا اعتماداً على العقل، بل لأنه أيضاً أتى بمبادئ وطرق ومصطلحات ارتبطت باسمه وتحسب له في ميدان العلوم، ما هو مبدأ الشك أو الكوجيتو؟، ولماذا حقق هذا الأثر البالغ؟ وماذا قال بعض المفكرين عن ديكارت؟ هذا ما سنورده في جزئنا الأخير من سلسلة رينيه ديكارت أبو الحداثة ومؤسسها.

الكوجيتيو أو الشك، هو اكتشاف غير عادي، وهو المبدأ الأول في كل فلسفة ديكارت. وهو الذي أثر في كل أنواع الفلسفة الحديثة، بالإضافة إلى الأدب والفن والعلوم الاجتماعية والدين. ولقد أقام جان بول سارتر فلسفته الوجودية على أساسه. الكوجيتو هو الدعامة الأولى للمعرفة عند ديكارت، وهو سندها اليقيني الذي ييسر للفكر المتابعة للكشف عن حقيقة الوجود الخارجي.

فعندما عكف ديكارت على أن يقيم العلم الكلي، على أساس ثابت في العقل، وعندما جعل اليقين ابتداء ذلك، شرع الشك. فإذا صمد أي مبدأ أو أية معرفة تجاه الشك، كان حجر الزاوية في البناء، وما تبقى فهو الزيف. فالفرق إذن بين شكه وشك الريبييّن عظيم جداً. إن شك الريبييّن هو غاية فلسفتهم، ونهاية استدلالهم، أما شك ديكارت فهو شك مؤقت، لا بل هو بداية البحث عن الحقيقة. وإذا كان شك الريبييّن تنازلا عن حقوق الفكر، وإنكارا للعقل، فإن شك ديكارت هو إيمان بالعقل، وعزم محقق على الوصول إلى اليقين. وهذا كله يدل على أن شك الريبييّن مذهب فلسفي، أما شك ديكارت فهو طريقة بحث.

فأبطل ديكارت أولا شهادة الحواس، كما فعل الغزالي. فقال إن الحواس تخدعنا أحياناً. ثم أبطل أيضا شهادة العقل نفسه، فقال إن العقل يخدعنا أحياناً، وبعض الناس قد يخطئون في الاستدلال حتى في أبسط القضايا. ثم أثار ديكارت كالغزالي شبهة أيدها بحالة النوم، فقال أننا نرى في النوم أموراً، ونتخيل أحوالاً، فنعلم أنه لم يكن لجميع تخيلاتنا ومعتقداتنا أصل ولا طائل.

إن شيئاً واحداً يبقى في معزل عن الشك في نظر ديكارت، وهذا الشيء هو الفكر. فتوصل إلى مبدأه الشهير - أنا أفكر إذن أنا موجود -. فشك ديكارت هذا إنما هو شك صوري، لأنه لم يشك في معرفته إلا بعد أن ملأ نفسه من اليقين. فيريدنا ديكارت أن نصل عبر الشك إلى مرحلة اللاعلم بأي شيء كان في هذا العالم. فإن اللامعرفة بصورة عامة مرحلة أولى لوضعك على طريق المعرفة.

لا يستبعد أن يكون ديكارت قد اطلع على مؤلفات العرب. فالغزالي تحدث عن العقل وفضله في الوصول إلى المعارف. وقال بأهمية التجربة كسبيل لإقامة المعرفة. وتحدث أيضاً عن الحدس والذوق، وأهمية استخدامهما في الوصول إلى المعارف العليا، خاصة تلك المتعلقة بذات الله والمعارف الدينية. وذكر ديكارت كذلك برهان الرجل الطائر، وهو برهان استخدمه ابن سينا لإثبات خلود النفس وتمايزها عن البدن. هذا غير أقوال الفارابي وابن رشد والحسن بن الهيثم والخوارزمي.

جعل ديكارت التفكير فريضة على كل إنسان يملك عقلاً، وجعل الفهم فرض عين لا فرض كفاية. فلسفة ديكارت فلسفة ثورية، بقدر تجاوزها للتأمل النظري والتفكير المجرد ليس غرض ديكارت، وإنما الغرض تحقيق سيادة الإنسان وسيطرته على نفسه.

قال العالم الفيزيولوجي الانجليزي ألدوس هكسلي:"إن المفكر الوحيد الذي أرى أنه فاق كل ما عداه في تمثيل أصول الفلسفة الحديثة وجذور العلم الحديث هو رينيه ديكارت. فمن يمعن النظر في نتيجة من النتائج التي طبعت الفكر الحديث بطابعها، سواء في الفلسفة أو في العلم، تبين أن معنى الفكر إن لم نقل صورته كان حاضراً في ذهن ذلك المفكر الفرنسي الكبير".

فيعد رينيه ديكارت مفكرا عظيما، لأنه يمثل كل ما ينطوي في عصره من قوى كامنة. ومصدر عظمته أنه استطاع أن يظهر المستقبل، وأن يكشف عن تلك القوى المنطوية، التي أصبحت بعد قرن أو قرنين ملكاً مشاعاً للجميع. و يقول كارل ماركس عن ديكارت أنه رائد الاتجاهات المادية في فرنسا كما يرى أن المادية الآلية في فرنسا قد انساقت وراء الفيزياء الديكارتية رغم معارضتها لميتافيزيقياه. وهي إشارة إلى أعلام الفكر المادي من الفرنسيين أمثال ليروا وكاباتي ولامتري .

ويقول طه حسين، الذي تبنى المنهج الديكارتي في دراسة الشعر الجاهلي : "منهج ديكارت هذا ليس خصباً في العلم والفلسفة والأدب فحسب، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضاً. والأخذ بهذا المنهج ليس حتما على الذين يدرسون العلم ويكتبون فيه وحدهم، بل هو حتم على الذين يقرأون أيضاً. وأنا أعتبر نفسي غير مسرف حين أطلب من الذين لا يستطيعون أن يبرؤوا من القديم، ويتخلصوا من أغلال العواطف والأهواء حين يقرؤون أو يكتبون فيه ألا يقرؤوا هذه الفصول فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحراراً حقاً".

يعد ديكارت من أكثر الفلاسفة إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة، هو فيلسوف الوضوح والتميز والعقلانية الخالصة. وأسلوب ديكارت كما يرى سانت بوف أنه كان يكتب على سجيته. وفولتير يقول: "لقد ولد ديكارت وله مخيلة مشرقة قوية جعلت منه إنساناً فريداً في حياته الخاصة على نحو ما هو عليه كذلك في طريقة تعقله، ولا يمكن لهذه المخيلة أن تستخفي حتى في مصنفاته الفلسفية التي يرى فيها المرء في كل لحظة توازنات بارعة رائعة".

كان ديكارت أول من أنشأ منظومة فلسفية حقيقية. فلسفة تعيد النظر في كل شيء، بدءاً من الصفر وتحاول أن تقدم جواباً عن كل المشكلات الفلسفية. ولما كان علم الطبيعة الجديد قد أنشأ طريقة للبحث تسمح بفهم الحوادث الطبيعية بدقة كبيرة، فإن ديكارت تساءل لماذا لا يكون ممكناً أن نعثر على طريقة في مثل هذه الدقة والثقة فيما يتصل بالتأمل الفلسفي. وقد شكل ذلك بداية الحداثة فمعظم أثر ديكارت لم يقتصر على زمانه بل امتد لما بعده إلى يومنا هذا حتى .

نحن بحاجة ماسة لقطيعة فكرية شاملة جريئة. وهذه القطيعة لا يقتصر امتدادها وتأثيرها على النخب الثقافية و الفكرية فقط، وتكون محصورة في فئة دون أخرى، بل أن تمتد وتشمل كافة الفئات. وإذا ما تم هذا فقط نكون بصدد الولوج إلى مرحلة جديدة تشمل كافة الميادين الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية. آنذاك نكون قد لحقنا بركب الحضارة والتقدم.

المصادر:

1- عالم صوفي موجز تاريخ الفلسفة، جوستان غاريز، ترجمة حافظ الجمالي (دمشق: دار طلاس، 1996، الطبعة الأولى).

2- العالم كتاب النور، رينيه ديكارت، ترجمة إميل خوري (بيروت: دار المنتخب العربي، 1999، الطبعة الاولى).

3- تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، رينيه ديكارت، ترجمة كمال الحاج (بيروت: منشورات العويدات دار فضول، 1961).

4- مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، رينيه ديكارت، ترجمة جميل صليبا (بيروت: اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، 1953).

5- أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط، محمد عثمان الخشت (القاهرة:درا قباء، 1998).

6- أقدم لك ديكارت، ديف روبنسون، كريس جارات، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2001).

7- ديكارت و العقلانية، جنفياف روديس لويس، ترجمة عبده الحلو (بيروت: منشورات عويدات، الطبعة الرابعة، 1988).

8- الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، إبراهيم مصطفى (الاسكندرية: دار الوفاء، 2000).

مصدر الصورة:

هنا