التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية

سبر أغوار الحضارة السورية .... أوغاريت كما لم تشاهدوها من قبل الجزء الثالث: الحياة العلمية والحضارية

أوغاريت حضارة الأدب و العلوم

تحدث الكنعانيون بغاليبتهم اللغة الأوغاريتية، اللغة السامية التي تتبع في حروفها ترتيب أبجد هوز و ذلك في القرنين الثالث و الرابع عشر قبل الميلاد. و بالإضافة إلى الكنعانيين فقد سكن أوغاريت عدد لا بأس به من الحوريين الذين قدموا من شمال شرق سورية. و كان هذا الشعب الهندو-أوروبي يتكلم اللغة الحورية، وهنا يمكننا القول أن الحورية و الأوغاريتية هما اللغتان المحليتان للمدينة.

أمّا أعمال التنقيب فقد كشفت عن وثائق بعدة لغات أخرى، حيث تشكل النصوص الأكادية و الأوغاريتية الحصة الأكبر من المكتشفات.

ولدت الكتابة الأكادية في بلاد الرافدين و ذلك منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد وانتشرت في بلدان الشرق الأدنى. تمّ اعتمادها في المراسلات السياسية والتجارية بين مختلف الممالك، فكانت هي اللغة الأدبية الفصيحة كما الانكليزية في عصرنا. بالإضافة لاكتشاف نصوص كتبت باللغة السومرية التي استخدمت في بلاد الرافدين على مدى ألف عام ( 3500 -2500 ق.م ) واستمرت مقتصرة على الكهنة والعلماء. وهكذا نجد أن أوغاريت كانت على تواصل بلغتين عالميتين هما الأكادية على وجه الخصوص والسومرية.

كما عثر في أوغاريت على مجموعة من الرُقم مكتوبة بلغات عديدة منها : القبرصية والمينوية حيث اكتشفت في حي قرب المرفأ وهذا يدل على وجود جالية قبرصية قد سكنت في حي المرفأ.

أما الكتابة الهيروغليفية المصرية فكانت منقوشة على الهدايا والهبات التي أرسلها بلاط الفراعنة الى اوغاريت والهيروغليفية الحثية فقد مهرت بها المراسلات الصادرة عن البلاط الحثي. بالإضافة الى رُقم كتب عليهم بالمسمارية الحثية. وكانت أوثق علاقات أوغاريت مع المملكة الحثية و قبرص ومصر و كانت جميع المراسلات تتم بالأكادية.

وهكذا نلاحظ أن كتبة وعلماء أوغاريت كانوا على اتصال بأربع لغات من الناحية العملية: لغتان محليتان هما الحورية والأوغاريتية ولغتان علميتان السومرية والأكادية. أما الرُقم المكتشفة المتنوعة في أوغاريت المكتوبة بالأكادية والمسمارية والحثية والقبرصية تدل على درجة انفتاح هذه المملكة وثقافة شعبها وإتقانهم لميدان الترجمة، الذي أكدها اكتشاف لرقم عن قواميس مكتوبة بلغتين و أكثر من اللغات التي تحدثنا عنها آنفا.

وفعلا ظهرت كفاءة كتبة أوغاريت في ميادين الترجمة حين عثر على الكثير من مقتطفات الأدب الكلاسيكي لذلك الزمن ( الأدب البابلي )مترجمة إلى اللغة الأوغاريتية، والوثائق الدبلوماسية المكتوبة على نسختين إحداها بالأكادية والأخرى بالأوغاريتية. بالإضافة الى نسخ مكتوبة بالأوغاريتية كانت عبارة عن مسودات أو نسخ لرسائل بعثت بالأكادية للخارج بالإضافة إلى رسائل قدمت من الخارج، و رأت الإدارة الملكية حفظ نسخ منها باللغة المحلية.

إن الكتابة في ذلك العصر لا يمكن أن تشكل هدفاً في حد ذاتها بل هي أداة لنقل الأفكار والمعارف والثقافة. ولا نستطيع القول أن جميع المتعلمين في أوغاريت كانوا مجرد ناسخين، والملفت هنا أن في بعض وثائق أوغاريت كان يضيف الكاتب إلى جانب توقيعه عبارة "خادم نابو ونيسابا" وكانا في ميثولوجيا بلاد الرافدين إلهي البحث والمعرفة.

وسنذكر بعض المكتشفات و أهمها :

رقيم في غاية الأهمية لأنه على ما يبدو جزء من ما يشبه الموسوعة فنجد فيه تعداد الأشجار، الطيور،الأقمشة،الأحجار و الأوعية..الخ، وهذا يدل أن الباحثين في المدينة كانوا يريدون أن يجدوا في متناول أيديهم الوثائق التي توفر كل المعلومات اللازمة لهم.

ونجد في قاعات تخزين الرُقم عدداً كبيراً من القوائم التي تتعلق بالإدارة الملكية والحياة الاقتصادية للمدينة كما أن لبعضها طابعها الموسوعي باعتبارها مفكرات وحتى فهارس تشبه ما يستخدمه علماؤنا اليوم في بحوثهم. و نذكر منها القوائم التي تعدد آلهة أوغاريت وقد ترجمت إحداها الى الأكادية، و كذلك القائمة التي تضم الآلهة الحورية. و هناك أعظم من ذلك ففي إحدى الوثائق المتعددة اللغات نرى مقابل كل إله سومري ما يقابله عند الأوغاريتيين والحوريين من الآلهة. فهي ابداع للمقارنة بين الأديان عمرها يزيد عن ثلاثة آلاف عام.

و تطرقاً إلى الجانب الطبي فقد عثر على بعض النصوص الطبية مع الإشارة إلى أن الطب كان على ارتباط وثيق وتداخل كامل مع السحر .نذكر منها نصا مبتورا نخمن من خلاله انه وصفات طبية، فنجد فيه عدة أسماء للمقادير الواجب تناولها بعد طحنها مجتمعة وبعد تسخينها. أما نصوص الابتهالات والأدعية السحرية فتعرض أحيانا لبعض الأمراض و الأدوية فمنها ما ذكر فيه : الصداع، الانفلونزا، الصرع، الدوار، مرض الاسنان، الرئة،البطن وكذلك اعتلال العضلات والجلد كما عثر في مقطع أخر من النص ذاته ما يمكن تفسيره بأنه حمام بخار.

أمّا ثقافة أوغاريت الموسيقية فنذكر منها رقيم مكتوب بالحورية ونجد فيه التراتيل الدينية مع تدوينها الموسيقي (تنويطها ).

و نجد في مجال الحقوق والتشريعات اكتشاف عدد كبير من الصكوك على اختلاف أنواعها ( بيع، شراء، تركة، هبة، وصية و قسمة ... الخ ).

جميع الصكوك كتبت بأسلوب واضح ومحدد و معظم الصكوك الحقوقية كتبت باللغة الأكادية ولم تكن باللغة الأوغاريتية الجارية على ألسنة سكان المدينة، فالغاية ولا شك استخدام اللغة الفصحى و إضفاء قيمة وصفة رسمية أكبر عليها.

كما كانت تتضمن دائما اسماء الشهود مما يدل على تقليد حقوقي شديد الرسوخ. ويبدو أن كل اتفاق كان يكتب على نسختين بحيث يكون لكل متعاقد نسخته الخاصة به. و نستطيع استنباط ذلك كما في الصورة ( رقم 3 )وتمثل تلك الصورة شاهدة حجرية لرجلين وهما يشرعان بأداء القسم إثر الانتهاء من كتابة عقد بينهما. فهما واقفان على جانبي طاولة صغيرة وضع فوقها رقيمان مكتوبان.

و للجانب الأدبي الاهتمام الكبير و يعتبر بحق من أوضح الدلائل على التطور الفكري في مجتمع من المجتمعات.

وقد اكتشف الكثير من النصوص الأدبية في مكاتب أوغاريت تعود معظمها إلى الأدب البابلي أو تستمد ايحاءاتها من بلاد الرافدين، وهذا ما يؤكد أن أوغاريت كانت مطلعة على المؤلفات الأدبية الكلاسيكية لذلك العهد مع اهتمامها بها، وهذا يدل على مستوى ثقافي عالٍ و سنذكر ونستعرض بعض هذه النصوص.

نذكر مقطع من حكاية الطوفان، ومقاطع يبدو أنها على بعض العلاقة مع ملحمة جلجامش الشهيرة، وهناك أيضا قصيدة جميلة وضع لها عنوان الصالح المتألم، ونحن إنما نشير إليها لما فيها من تشابه مع سفر أيوب في التوراة علماً أنه في الأدب البابلي اللاحق ما يشابهها مع اختلافات طفيفة. لدينا أيضا مجموعة من النصائح يعطيها أب لابنه لحظة انطلاق ذلك الاخير في سفرة بعيدة. اكتشفت نسخة ثانية من النصائح في تركيا في Bogazkoy عاصمة الحثيين لكنها هي الأخرى تعود إلى العرف الرافدي وهذا مقطع من المجموعة المذكورة :

" في الشارع المأهول..لا تتكلم .. لا تتحدث بالسوء عن الناس ... فقد تحصد ثمار عملك أثماراً عاجلة : احتقار، حيل، أحقاد لا تزول ...

لا تهزأ بالرب الذي لم تتوجه إليه بالدعاء.

فلتكن قواك خير ناصح لك.

لا تجرب نفسك مع قوي شديد الباس.

ما في كيس نقودك لا تطلع امرأتك عليه.

عندما يسمع الناس النميمة تبقى منها إشاعة عالقة، لا تلتقط تلك النميمة و إذا التقطت الإشاعة الباقية لا تبيت عليها مخططا فقد يضطرب قلبك وسوف يغتابونك أنت أيضاً.

لا تشترِ ثوراُ في الربيع، لا تتخذ زوجة فتاة تراها في العيد، فالثور السيئ يتحسن في الفصل الجيد والفتاة السيئة تلبس في العيد ثوباً جميلا يليق بها ".

و نذكر أيضا نص يظهر معالم الشخصية الأوغاريتية لم يكتشف ما يقابله في الأدب البابلي. إنه مجموعة من الحكم والأقوال وجدت مكتوبة على ثلاث نسخ، وكان عالم اللغات القديمة جان نوغايرول قد قام بترجمته وكان من رأيه أن هذه النسخ تعود لثلاثة تلاميذ في صف للإنشاء الأدبي في أوغاريت وقد طلب إليهم على ما يبدو مناقشة الوجود الانساني

بالاستناد إلى الأقوال والأمثال الدارجة، ويعبر ذلك النص عن تشاؤم منبعه البؤس الأصلي للإنسان، فهو غارق في ظلمة عالم لا يستطيع سبر أغواره ولا يقدر على معرفة آلامه وتجنبها :

>>لبعد السماء لا تدركها اليد

لعمق غور الأرض لا يدركها أحد ..

حياة بلا نور، فماذا تزيد عن الموت ؟

مقابل سعادة يوم، أيام من الدموع

وها هي السنة تجري وفيها ألف علة ...

الناس ما يفعلونه لا يعلمونه بأنفسهم

معنى أيامهم ولياليهم كامن عند الآلهة .

و في نهاية رحلتنا ندرك بأنه حتى يومنا هذا لا نزال نكتشف أسراراً في حياة المدينة العظيمة اوغاريت.

أداء القسم في أوغاريت

النوتة المويسقية

رقيم يحمل اسماء آلهة أوغاريت

المصادر:

سعادة ، جبرائيل (1987) أبحاث تاريخية وأثرية. دمشق: دار طلاس