الفنون البصرية > فن وتراث

الخيّال الشامي، قصة "القبضاي" المجهول

الخيول شغفه، يلاحقها أينما حلّت، يعيد خلقها بريشته وألوانه فيرسمها وشمس أيلول الهادئة تتلألأ على صهوتها، إنه إدوارد تروي، الفنّان التشكيلي الذي سحرني بلوحاته عندما التقيتها أوّل مرّة في أحد المعارض، حتّى ساورني الشكّ بأنه طبيب بيطري لدقّة تفاصيله، وما هو إلا رسّام خيول وأحصنة، يسابق الريح ويطوف العالم ليرسمها بكل أشكالها، خيل بني، وآخر رمادي، وخيول سوداء وحمراء..... هكذا لا تكلّ يمينه عن تجسيدها

لا يمكن لمحبي الأدهم ألّا يسترجعوا أشعار امرئ القيس وهم يطالعون جواد أصيلاً متجسّداً أمامهم بريشة إدوارد تروي، فكأنّك تسمعه يقول:

كميت يزل اللّبد عن حال متنه ... كما زلّت الصفواء بالمتنزّل

مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار بالكديد المركل.

تبدأ قصتنا في لوزان، إحدى الضّواحي في جنوب سويسرا، بطبيعتها الساحرة حيث الكروم الوفيرة والخضرة المثيرة والسهول الخضراء التي تجري فيه الخيول وتمرح حول بحيرة لوزان، وهوائها العليل القادم من الألب الذي يشكّل بقممه مفترق طرق بين إيطاليا وفرنسا، في هذه الأجواء الحالمة وُلِد إدوارد تروي، في الثاني عشر من حزيران عام 1808.

بدأت علاقته بالخيل منذ طفولته بسبب البيئة الريفيّة التي نشأ فيها، فقد وفّرت لوزان لهذا الرسّام الكثير من الفرص ليشاهد بعينيه تفاصيل جسد الخيل، فلم يكن بحاجة لأن يحضر دروس العلوم ليفهمها، كل ما كان عليه فعله أن يكبر وهو يراقبها من حوله متعنّاً في جمالها وأناقتها وشموخها، ليظهر هذا الشغف فيما بعد في لوحات نابضة بالحياة أظهرت منذ البداية موهبة فذّة في رسم الخيول وتجسيدها بصورة واقعية لا تضاهيها ريشة رسام آخر

لكن في مطلع القرن التاسع عشر طرأ تغيير جوهري على حياة تروي الهادئة، فقد ضربت رياح الفقر أوتاد خيمة الريف الأوروبي، لتؤثّر على مصير أجيال من شباب أوروبا المنهارة اقتصاديّاً بوقع حروب المستعمرات وسباقها المحموم نحو احتلال الأراضي، فلم يجد هذا الرسّام بدّاً من ترك بيئته العزيزة والانتقال إلى العالم الجديد أي إلى الولايات المتحدة حيث الفرص والوعود الحالمة تنتظر الشبّان من كل مكان، فهاجر عام 1828 إلى فيلادلفيا-بنسلفينيا، التي كانت تعرف في ذلك الوقت بإسم جزر الهند الغربية، بعد أن احتفل في لوزان بعيد ميلاده العشرين والأخير في بلده الأم.

وهناك عمل رسّاماً في مجلة Sartain، دون أن يتوقّف عن ممارسة هوايته المحبّبة، رسم الخيول، بالعكس زاد شغفه فيها بعد تعرّفه على صنف جديد منها، وهو الخيل الأوروبي

انتقل عام 1839 إلى كنتاكي، وفيها تعرّف على كورنيلا فان دي جراف، تزوّج منها واستقّر بعد زواجه في كنتاكي ليرسم الخيول المشاركة في سباق الخيل الذي كان يقام هناك، فقضى الخمس وثلاثين سنة المقبلة من حياته في تلك المدينة يرسم الخيول أينما يجدها.

بعد عدّة سنوات، بدأت مرحلة جديدة في حياة إدوارد، حيث ستقوده الأقدار نحو رسم لوحتنا لهذا اليوم، فقد استهوته فكرة زيارة الأرض المقدّسة، وفي خضم تجواله في مدن بلاد الشام، قصد دمشق، العاصمة التاريخيّة الكبرى للمنطقة، وبالتأكيد لا يمكن لمن يزور دمشق ألّا يعرّج على سوقها الكبير، سوق الحميديّة، وهناك حيث يخالجك شعور الصريع المدهوش، الكل ينادي والكل يصيح على بضائعه، أناس كثيرة من كل حدب وصوب، وبينما إدوارد هائم في بحر من الضجة والألوان والروائح لمح خيّالاً شاميّاً، مشدود القوام مفتول الشاربين، يعتمر حطّة شاميّة على رأسه، وحمرة خدوده لا يميزها إلا سواد عينيه، يمتطي فرس بيضاء بهيّة مسروجة بسرج أحمر، تدل على أنه من فرسان دمشق وعليّة أهلها، ربما لم يتسنى للرسّام لقاءه أو التحدّث إليه، ولكن لابد أنه شعر أن هذه الفرس العربيّة وفارسها مختلفين تماماً عمّا شاهده في سويسرا والولايات المتحدة، هنا نوع مختلف من الخيول ذات الماضي المجيد والبذرة الأصيلة.

يصوّر إدوارد في لوحته تفاصيل دقيقة لها عدّة دلالات بدءاً من سوق القماش المحتشد بالتجّار والزبائن من كل الفئات من الرجال والنساء المشغولات بالبيع والشراء، وبين حشد الزبائن والزوّار تظهر عائلة بدوية داخل السوق مع كلابها وجملها ممّا يعني بالضرورة أن أبواب السوق كانت واسعة وسقفه عالٍ، وجدرانه مبنيّة من الحجر، ممّا يدلّ على قِدَمه وعراقته

الملفت للنظر في لوحة تروي أنها تصوّر نظرات الجميع موجّهة نحوه، فنلاحظ أن أغلب الموجودين في السوق يستهجنون وجوده، تراه ماذا كان يلبس، أو ماذا كان يفعل؟ ربما استغربوا تناوله لريشته وألوانه وبدئه برسم الخيّال، ربما، لا ندري بالضبط مدى صحة ذلك

ويظهر الخيّال الشامي بزيّه التقليدي الشتوي الذي في غاية الأناقة والترتيب، وطلّته تدل على أصالة وعز تبرزهما اللوحة وتفيض بهما، ربما يكون هذا الخيّال هو زعيم هذا الزقاق " أو ما يعرف بـ (القبضاي)" الذي يمسك زمام الأمور في السوق، و"القبضاي" كلمة تركية تدلّ على العزم والبأس والشدة، وفورة الشباب، وهذا القبضاي الظاهر في اللوحة لا يلوي على رسام يرسمه ويحاول إخفاء ابتسامته ليبدو رجلاً شديداً

من الواضح أن إدوارد زار المدينة في الشتاء، فالجميع يرتدون أقمشة سميكة وخدودهم الحمراء دليل على دفء السوق المسقوف الممتلئ بالناس.

بين رجال مفتولة الشوارب وأخرى كثيفة اللحى، ونسوة يجادلن البائع ويكاسرنه على سعر ذراع القماش، وقف إدوارد في منتصف سوق دمشق أو الحميديّة بعد أن سحرته فرس بيضاء أصيلة، ممسكاً بألوانه الزيتيّة مبدعاً فيها على قطعة قماش تتراوح أبعادها 84×64 إنش لوحته الرائعة التي صوّرت خيّالاً دمشقيّاً ناصع الجبهة بهيّ الطالع ممتلئاً بالرجولة والقوة، ما كان يدري بأنه سيترك للقادمين من بعده لوحة استثنائيّة ستخلّد مشهداً رائعاً من الحياة الدمشقية الاقتصادية الممتدة منذ قرون حتى يومنا هذا، فقد كانت دمشق منذ القدم مركزاً اقتصاديّاً قويّاً، وحملت لوحته عنوان: سوق دمشق في عام 1856

ذهبت هذه اللوحة مع رسامها مقفلين إلى كنتاكي حيث وضعها مع مجموعة لوحات مميزة عن الخيول عرفت لاحقا باسم مجموعة كلية بيثاني، حيث بقيت هذه اللوحة في تلك الكلية في الولايات المتحدة الأمريكية، وجئتكم بها اليوم لأحكي لكم قصتها ما استعطت، قبل أن أختم لكم بوفاة رسامها سنة 1874 بعد مضي ثلاثة عشر يوماً على احتفاله بعيد ميلاده السادس والستين وذلك في صبيحة الخامس والعشرين من شهر حزيران/يوليو، وافته المنية في بيته في كنتاكي، تاركاً خلفه روعة دمشق التي خلّدها في لوحة بهيّة تعيد لنا جمال الماضي وبهائه.

ولمن يحب أن يتعرف على عناوين لوحاته المتعلّقة بالخيل، إليكم هذه القائمة التي تحتوي على لوحاته المسجّلة بإسمه:

American Eclipse and Sir Henry

Bertrand

Black Maria

Boston and his son، Lexington

Glencoe I

Kentucky

Lecomte

Leviathan

Longfellow

Ophelia - dam of Gray Eagle

Reality

Reel

Revenue

Richard Singleton

Wagner

West Australian

ويمكنكم مشاهدة هذه اللوحات في هذا الرابط:

هنا

المصادر:

هنا

هنا

هنا