الفلسفة وعلم الاجتماع > أعلام ومفكرون

تأملات رينيه ديكارت

ماهي مراحل فلسفة ديكارت؟ وما هي أهم كتبه؟ وماهي تأملاته ولماذا ذاع صيتها كثيراً؟ وهل التسليم بصحة شيء بعد النفي أقوى من التسليم به مسبقاً؟ ولماذا اعتمد ديكارت هذه الطريقة؟ وماهو مصطلح الاسقرار الديكارتي وماهي دلالته؟

قد جعل ديكارت النفس نقطة البداية في رحلة شكه ويقينه. فقسم مراحل فلسفته إلى ثلاث مستويات أو مراحل:

- من الشك إلى اليقين.

- من النفس إلى الله.

- من الله إلى العالم.

فأثبت أولاً وجود ذاته من حيث هي جوهر مفكر، ثم بدأ بالبحث عمّا يعرض له من أفكار، فوجد في نفسه فكرة مسيطرة على جميع الفكر، وهذه الفكرة هي فكرة الكمال أو اللانهاية، وهي الله ووجوده. ولقد صدق أحد الباحثين في قوله أن ديكارت (لم يشأ أن يعرف وجود الله عن طريق العالم، بل زعم على العكس من ذلك أن معرفة العالم عن طريق الله أولى، فلم يعتمد على الأرض للصعود إلى السماء، بل أراد أن يهبط من السماء إلى الأرض، ولم يطلب إلى العالم أن يضمن له وجود الله، بل طلب إلى الله أن يضمن له وجود العالم).

ينسب لديكارت عدة مصطلحات ابتكرها وشرحها مفصلا في كتبه. ومن أحد أهم هذه المصطلحات "الاستقرار الديكارتي". ورد هذا المصطلح في كتابه (قواعد الطريقة)، والذي ذاع صيته وأصبح دليلا لعلماء ومفكري عصره وما بعدهم. يقول في قاعدته الأولى "يجب ألا أتلقى على الإطلاق شيئاً على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك"، ويضيف في قاعدته الثانية أنه من الفطنة أن "أقسم كل واحدة من المعضلات التي أبحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه"، وهذا لإزالة الغموض. أما في القاعدة الثالثة فيوصي ديكارت بترتيب الأفكار قائلاً "يجب أن أرتب أفكاري، فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة، وأتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً، حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور تركيباً، بل أن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضا بالطبع"، وهذا كله يدل على أن قاعدة ديكارت الثالثة مشتملة على عملين فكريين هما، الأول هو الرجوع إلى الوراء عن طريق التحليل، والثاني هو التقدم للأمام عن طريق التركيب. أما التحليل فهو تمهيد للتركيب، لأنه يكشف عن العناصر البسيطة، ويرتبها في سلسلة خاصة، بحسب درجة بساطتها. وأما التركيب فهو ربط حدود هذه السلسلة بعضها ببعض، وترتيبها ترتيباً منطقياً. وأخيرا في قاعدته الرابعة يدعو للقيام "بإحصاءات تامة ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا"، إن هذه القاعدة تطلب منا أن نقوم بمراجعات عامة حتى لا نغفل أي حد من الحدود المتوسطة التي تشتمل عليها المسألة. ونعني بالحدود المتوسطة جميع المسائل الفرعية التي يجب حلها، وجميع الصعوبات التي ينبغي لنا اجتيازها، فالإحصاء أو الاستقرار الديكارتي هو إذا" الإحاطة بجميع شروط المسألة أو الإحاطة بجميع أجزاء الكل، والتحقق من أن العقل لم يغفل منها شيئاً عن سهو ولا عن خطأ". إن هذه القواعد أصبحت نبراساً و صارت تعتبر من البديهيات فقد حاول رينيه ديكارت تنظيم العقل واستخراج الذكاء منه تدريجياً.

أما في كتابه في الفلسفة الأولى أو تأملات ميتافيزيقية والذي يعد كذلك من أهم كتبه، و الذي وضعها ضمن تعداد قال بداية:

في الأشياء التي يمكن أن توضع موضع شك

في هذا التأمل يجعلنا ويحضنا ديكارت على أن نشك في كل الأشياء دون استثناء. وألا نستند على ما في عقولنا للتسليم، فكل شيء قابل للشك إذا ما ثبت يقينيا صحته والشك ليس للشك وهو ليس مضيعة للوقت وترفاً فكرياً فإن فائدته عظيمة وكبيرة جداً فتجعل الفكر محرراً من قيود حواسه وتعزز إيماننا بأمر ما بعد تحري سبل صحة هذا الموضوع، فيكون الإيمان به بعد التشكيك بها قوى وأشد أثراً. يقول ديكارت: " قررت أن أحرر نفسي جدياً مرة في حياتي من جميع الآراء التي آمنت بها قبلا وأن أبتدئ الأشياء من أسس جديدة إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم قواعد وطيدة ثابتة ومستقرة".

ينبغي لنا كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة أن نرفض كل آرائنا القديمة ولو لمرة في حياتنا. ويضيف ديكارت بأنه لا يتوجب إعادة النظر بكل الآراء يكفي معالجة أهمها. وإن كل ما تلقاه الإنسان في عقله عن طريق الحواس أو بالحواس قد تكون أحيانا مزيفة، ومن الحكمة ألا نطمئن لمن يخدعنا ولو مرة واحدة. ويقارن ديكارت بين علوم الطبيعة والفلك والطب التي هي عرضة للشك القوي مع الحساب والهندسة التي تحتوي على شيء يقيني لا سبيل للشك فيه، وتقوم على حقائق ثابتة.

وفي التأمل الثاني : في طبيعة الروح الإنسانية التي نعرفها أحسن مما نعرف الجسم .

يطلب ديكارت إيجاد ثابت واحد فقط آخذاً ذلك من العلوم التطبيقية كأرخميدس الذي طلب نقطة ثابتة واحدة لا تتحرك لينقل الكرة الأرضية من مكانها. فيقول: "لعل شيئاً واحداً لا غير هو أنه لا يوجد في العالم شيء ثابت". ويتوصل ديكارت لوجود الإنسان طالما أنه يفكر ويقول :" أنا موجود بلا ريب لأنني اقتنعت أو لأنني فكرت بشيء". فيعلي ديكارت من شأن العقل ويقلل من أهمية الحواس التي من الممكن أن تخدعنا وتضلنا، و أن من صفات النفس هي الفكر، فهو صفة تخص الإنسان ولصيقة به. ويجب معرفة النفس عن طريق إدراكها بالذهن.

أما في التأمل الثالث : في أن الله موجود.

لا شك في أن الفكرة قادرة على أن تلد فكرة أخرى، وذلك لا يمضي حتى النهاية. إذ يجب آخر الأمر، أن نصل إلى فكرة أولى تكون علتها أشبه بنموذج أو بأصل تحتوي فعلياً على كل الوجود والكمال. وفكرة الله هي الوحيدة التي لا تأتي منا نحن. وهنا يتوصل ديكارت لوجود الله اللامتناهي، الجوهر، المتنزه عن التغير، القائم بذاته، المحيط بكل شيء، القادر، و خالق كل شيء. و أن الله سابق لذواتنا. و هنا يقول ديكارت : "وإلا كيف أعرف أني أشك وأني لست كاملا كل الكمال لو لم يكن لدي فكرة عن كائن هو أكمل من كياني".

وفي التأمل الرابع : في الصواب والخطأ .

إن ما نعرفه عن النفس البشرية يفوق الأشياء الجسمية، ومن الممكن أن يخطئ الإنسان رغم أنه يمتلك عقلاً. وديكارت لا يذم ارتكاب الأخطاء نهائياً، بل ويحبذها، ويعتبر الوقوع بها أفضل من عدمه. فيقول : "الخطأ ليس سلباً بحتاً، و ليس مجرد عيب أو افتقار. هل سقوطي في الخطأ هو أفضل من عدم سقوطي؟! ".

ونلاحظ بتأملات ديكارت أنها كانت منطقية التسلسل، ومرتبة بعناية. و شك ديكارت ليس نابعا من ضعف، أو أن الشك بحقيقة معينة يعني أنها غير موجودة. بل على العكس من ذلك، إن شك ديكارت يعزز قبولنا ومعرفتنا للأشياء، ويساعد النفس على التأكيد بشكل أكبر و أقوى. والشك في حقيقة معينة لا يعني البتة عدم وجودها، بل دليل على أن الطبيعة البشرية خطاءة قابلة للسهو والخطأ.

كتب ديكارت ما يقارب ستة تأملات ذكرنا أهمها وأكثرها حنكة، ليس في طرح الفكرة والتي كانت مجرد التفكير بها خارج عن المألوف في فترة أوروبا آنذاك، بل أيضا في طريقته في معالجتها وتدرجه في إثباتها. إن شك ديكارت منطقي منهجي وهو يقول أنه ليس بالأمر الهين بل هو صعب للغاية ولكنه يساعد على ترتيب الأشياء في عقولنا ويتطلب وعياً شديداً وانضباطاً كبيراً يبقي العقل في حالة استنفار دائمة. حاول ديكارت عبر تأملاته أن ينسف كل ما جاء به وأن يقطع صلته مع الماضي قطيعة كاملة لا تستثني شيئاً.

إن ديكارت ليس فيلسوفاً بالمصادفة، واهتمامه بالقضايا العلمية والرياضية لا ينتقص منه على الإطلاق. إنما يزيد من مكانته. حيث حاول أن يطبق ذلك على فلسفته مما أثر عليها. وديكارت قد أبعد عن الإيمان والتدين المكتسب من العائلة أو البنية الاجتماعية، فهو ينسف وجود الله ثم يعيد إثبات وجوده بالعقل وبالعقل وحده، ضارباً بعرض الحائط ما وجد عليه آبائنا وما تربى عليه في المجتمع. فهو يساوي بين النور والإيمان، ويقول أن الله خصنا بالعقل لنتوصل به للحقائق بما فيها من وجود الله. وهذا ما تناوله في كتابه النور أو العالم. و الذي اقتصر ديكارت فيه على المسائل الوجودية، وساد في كتابه هذا على عادته دوماً نفحة عقلانية مطلقة بارزة الظهور.

أما آخر كتاب حررته يد الكاتب الفرنسي، و قد بقي في الظل لفترة كبيرة، وقد كتبه باللغة الفرنسية لا باللاتينية ليكون بمتناول الجميع، هو رسالة ديكارت في انفعالات النفس. يحاول فيه أن يشرح ويفسر كل الانفعالات والعواطف والأحاسيس. وذلك ليمكن العقل من السيطرة عليها والتحكم بها بما يخدمه ويحقق سعادته ورضاه، هذا في جانب علم النفس. أما الجانب الآخر وهو الأخلاق، فهو يعزز دور الإرادة في التحكم بأهواء الإنسان وما قد تعرضه نفسه لنزوات.

المصادر:

1- عالم صوفي موجز تاريخ الفلسفة، جوستان غاريز، ترجمة حافظ الجمالي (دمشق: دار طلاس، 1996، الطبعة الأولى).

2- العالم كتاب النور، رينيه ديكارت، ترجمة إميل خوري (بيروت: دار المنتخب العربي، 1999، الطبعة الاولى).

3- تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، رينيه ديكارت، ترجمة كمال الحاج (بيروت: منشورات العويدات دار فضول، 1961).

4- مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، رينيه ديكارت، ترجمة جميل صليبا (بيروت: اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، 1953).

5- أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط، محمد عثمان الخشت (القاهرة:درا قباء، 1998).

6- أقدم لك ديكارت، ديف روبنسون، كريس جارات، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2001).

7- ديكارت و العقلانية، جنفياف روديس لويس، ترجمة عبده الحلو (بيروت: منشورات عويدات، الطبعة الرابعة، 1988).

8- الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، إبراهيم مصطفى (الاسكندرية: دار الوفاء، 2000).

مصدر الصورة:

هنا