الموسيقا > عظماء الموسيقا

أسطورة أنطونيو سالييري.. وكذب المؤرخين.

ولد أنطونيو سالييري (Antonio Salieri) عام 1750، في لينيانو في جمهورية البندقية (إيطاليا حالياً)، بدأ دراسته الموسيقية في مسقطِ رأسِهِ في لينيانو، وتعلَّم المبادئ من أخيهِ الأكبر "فرانسيسكو سالييري" الذي تعلّم على يدِ عازفِ الكمان والملحن "جوسيب تارتيني" ، كما أخذ دروساً في العزف على الأورغن في كاتدرائية لينيانو. ولطالما كان سالييري شغوفاً بالموسيقى، فقد وُبّخ مرتين لهربِهِ من البيت إلى الكنيسة لسماعِ أخيه يعزف على الكمان هناك. لاحقاً، واصل سالييري دراسته الموسيقية مع عازف الأورغن والمؤلف الأوبرالي "جيوفاني باتيستا باشيتي"، وبسبب موت الأخير المفاجئ استأنف دراسته مع مغني الأوبرا "فرديناندو باتشيني"، ومن خلال باتشيني اكتسب اهتمام الملحّن "فلوريان ليوبولد غاسمان" الذي أُعجب بموهبة سالييري وتكفّل بتعليمه. وفي عمر السادسة عشرة، قدَّم الملحّن "غاسمان" سالييري إلى الأمبراطور جوزيف الثاني -حاكم الامبراطورية الرومانية الجرمانية في ذلك الحين –ونالَ إعجابه وسمحَ الإمبراطور لغاسمان بإحضار سالييري متى ما شاء. في الفترةِ نفسها أقامَ سالييري صداقات مع كلِّ من الشاعر والكاتب الأوبرالي "ميتاستاسيو" وملحن الأوبرا الكلاسيكي "كريستوف غلوك".

نجاح بعد نجاح، أصبح سالييري المؤلف الموسيقي الإيطالي للموسيقى الكلاسيكية والأوبرا التي ذاع صيتها في أواخر القرن الثامن عشر.

أعماله:

نالَ العمل الأوبرالي الاوّل لسالييري (Le Donne Letterate) الكثير من الإعجاب والذي تمَّ إنجازه في مسرح بورغ في فيينا النمساوية. وفي وقتٍ لاحق بعد مرور 4 سنوات نصّب الإمبراطور الأخير سالييري مؤلف موسيقى المحكمة (البلاط) الإمبراطورية آنذاك. وفي سنة 1788 أصبح سالييري مدير موسيقى المحكمة (البلاط) الإمبراطورية، هذه المرتبة جعلته من الموسيقيين الأكثر تأثيراً في أوروبا، و شغل هذا المنصب لمدة 36 عاماً. لم تقتصر مؤلفات سالييري لمسارح النمسا فقط، بل عَمِلَ أيضاً لصالح شركات في فرنسا وايطاليا. وكان عام 1783 من أكثرِ المتعاونين مع الشاعر الإيطالي "لورنزو دا بونتي"، الذي أصبح أيضاً من أهمِّ مؤلفي أغاني الأوبرا للموسيقار الشهير موتسارت. من أكثر الأعمال الأوبرالية شهرةً في مسيرتِهِ الفنِّية كانت (Terrare) التي تمَّ عرضها الأوَّل في العاصمة الفرنسية باريس عام 1787، والتي تمَّت ترجمتها للإيطالية من قِبل المؤلف "لورنزو دا بونتي"، وتمَّ عرضها باسم( Axur, re d’Ormus) كعملٍ أوبيرالي درامي تراجيدي كوميدي.

آخر عروض سالييري كانت في عام 1807 ومن بعد ذلك كرّس حياتَهُ لتأليفِ موسيقى القدّاس، وكان أيضاً مدرِّساً مهمَّاً؛ فمن طلابه "لودفيغ فان بيتهوفن", "فراتز شوبرت" و "فرانز ليزت".

و من بين أكثر الأعمال نجاحاً والتي كان عددها 37 عملاً، منها: (Armida (1771) و (La fiera di Venezia (1772 و (La scuola de' gelosi (1778 و (Der Rauchfangkehrer (1781و Les Danaïdes (1784.

علاقاته:

كان سالييري طوال حياته على علاقةٍ ودِّية مع "جوزيف هايدن ولودفيغ فان بيتهوفن" ، نشرَ العالم الموسيقي الألماني "فولكمار فون بيرينز" عام 1989 سيرةً ذاتيةً عن سالييري مصوِّراً الأخير على أنَّه شخصٌ جديٌّ، ثابتُ الخطى وحادُ الطباع في بعض الأحيان، ولكنَّه كان مزوحاً، يصنع نكتةً من أيِّ شيء. لا يوجد دليل مؤكد على أنَّ سالييري كان قاتلاً، إذ كانت علاقتُهُ مع موتسارت ضرباً من الغموض.

إشاعة قتلِهِ لموتسارت:

القليل من الأدلَّة على مكائدِ وتصريحات سالييري الضارَّة المزعومة ضد موتسارت، الاعتقاد أنّ سالييري قد حاولَ تسميم موتسارت ليس له أساسٌ من الصحّة، الأسطورة التي كانت مرتكزةً على العملِ الأوبرالي للمؤلِّف الموسيقي الروسي "ريمسكي كورساكوف" (موتسارت و سالييري) عام 1898، والتي كانت هي نفسها مرتكزةً على قصةٍ قصيرةٍ للكاتب الروسي "اليكسندر بوشكين" (موتسارت وسالييري) عام 1830، وقد زاد الطين بلة الكاتب المسرحي "بيتر شافر" في مسرحيته (اماديوس) عارضاً المزيد من المضاربة بالأفكار حول علاقة سالييري مع موتسارت. وفي عام 1984 تمَّ تصوير فيلم من إخراج "ميلوش فورمان" يتمحور حول أحداث المسرحية الأخيرة عن حياة "فولفغانغ أماديوس موتسارت" و"أنتونيو سياليري"، 180 دقيقة من المشاهد التي تحمل أفكاراً سيئةً عن سالييري سواء بقصدٍ أو بدونه، ونجاحه العظيم كان العامل الأكبر بتحويلِ رأي العامَّة ضد سالييري الذي تمَّ عرضه على أنَّه المجرم، وربّما لأنَّ كل من "كورساكوف" و"بوشكين وفورمان" وجدوا من سالييري العدو المثالي الذي يمكن أن يغذّوا به أعمالهم الفنية ويجمعوا أكثر عددٍ ممكنٍ من المعجبين.

إذ تاريخياً، ذُكر في رسائل موتسارت إلى أبيه أنَّ هناك مجموعات من الإيطاليين يترأسهم سالييري يسعون لمنع حصول موتسارت على مناصبٍ محدَّدةٍ أو إعاقة إقامة عروضه، وذلك شكّل خوفاً عن موتسارت بأن يتمَّ قطع العلاقة بينه و بين "لورنزو دا بونتي" -كونه كان إيطالياً أيضاً- وبوجود عدَّة مصادفات حصلت منها تلك التي ذكرها كاتبُ السير الذاتية "الكسندر ويلوك ثاير" أنَّه عندما تقدّم موتسارت مع سالييري ليصبحَ أستاذاً للموسيقى لإليزابيث أميرة فورتمبيرغ آنذاك، تمَّ قبول سالييري بسبب سمعته كأستاذِ غناء، وتمَّ تكرار هذا السيناريو السنة التي تليها، وعدّ موتسارت ذلك العمل متعمّداً.

ولكن لا نستطيع غض النظر عن أنَّ موتسارت وسالييري كانا يظهران سويَّاً كالأصدقاء خصيصاً بعد أن وطّد موتسارت نفسه في فيينا، كما أنّهما تشاركا سوياً في تأليف عملٍ يدعى:

(Per la ricuperata salute di Ophelia)

وفي إحدى رسائل موتسارت تحدَّث عن سالييري في أحدِ عروضِهِ أنَّه لم يكن هناك جزء من أداء سالييري لم يجعله يقول "برافو" بحماس ،وأنَّ سالييري كان معلّماً لابن موتسارت الأصغر فرانز كسافير الذي وُلد في سنة وفاة موتسارت. حتى كان موتسارت يُقدِّم عروضاً لأعمالٍ محدَّدةٍ بناءاً على اقتراح سالييري مثل:

(Davide penitente (1785), Concerto KV 482 (1785), the Clarinet Quintet (1789 و (40th Symphony (1788

من غير المنطقي الجزم بأنَّ سالييري كان الرجل الشرير الغامض الذي قاد موتسارت إلى حافَّةِ قبرهِ باستخدام الزرنيخ ، أو أنَّه كان مؤلِّفاً موسيقياً رديئاً، وللأسف الفئة العامة من الناس لم تسمع عن سالييري وأعماله إلا تلك التي عُرضت في فيلم أماديوس. بالطبع هناك الكثير من المؤلفات الرائعة لسالييري لم يسمع عنها العامَّة وهذا ما جعلهم يصدِّقون فكرةَ الرجل الشرير الذي سمَّم موتسارت استناداً على الانطباع الأوّل نتيجة الفيلم الأخير، فالشخصية كانت مبنيِّة على أساسٍ هش.

في الأسابيع الأخيرة لحياة موتسارت اعتُقد أنَّه تمَّ تسميمه، وتمَّ اتّهام جماعات إيطالية في محكمة فيينا، وبالطبع الأصابع أشارت إلى الموسيقي الإيطالي المشهور آنذاك سالييري، ولكن لم يكن هناك أي دليل مادي على ذلك.

وفاته:

نُقل إلى المشفى للعلاج بعدَ مرضٍ شديدٍ، وأصبح رجلاً ميؤوساً من شفائه، مختلاً ومشوّشاً، الضرر الذي لحق في عقله جعله في حيرةٍ من أمره؛ هل حقّاً هو الذي سمَّم موتسارت أم لا؟! ، وظلّ على هذا المنوال حتى اعترف بأنَّه هو الذي قتل موتسارت نتيجة التخبّطات التي عاشها في ساعاته الأخيرة، وبالطبع لم تكن الحقيقة، ولكنّها أعطت الإشاعة نوعاً من المصداقية.

توفي سالييري في 5 آيار 1825، وتمَّ عزف موسيقى (C Minor) التي ألَّفها بنفسِهِ وصدح صوت التراتيل تخليداً لذكراه، ذلك الإنسان الذي اقترن اسمه مع العديدِ من الموسيقيين العظماء أمثالِهِ، الشخصية المحورية التي ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في تطوير الأوبرا في آواخر القرن الثامن عشر، الذي تعايش مع الإشاعات الدخيلة على حياتِهِ المُكلّلةِ بالنجاح.

المصادر:

هنا

هنا

هنا