الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

تطويع الكيمياء لفصل النفط عن الماء بتكلفة منخفضة

لا تبدو القطعةُ البسيطةُ من شبكةِ الفولاذِ المقاومِ للصَّدأ الموجودة في مختبرِ جامعةِ ولايةِ أوهايو شيئاً ذا أهميّة، لكن على عكس ما تبدو عليه فقد تُحدِثُ فرقاً كبيراً في تقنيات تنظيف البيئةِ في المستقبل، حيث تسمحُ هذه الشّبكة للماءِ بالمرورِ عبرها وتمنعُ النّفط من ذلك بفضلِ طلاءٍ غيرِ مرئيٍّ تقريباً موضوعٍ على سطحِها يقومُ بصدِّ النّفط.

لاختبار الشّبكةِ المصنّعةِ الجديدة، خلطَ الباحثونَ الماءَ مع النّفطِ جيّداً، وصبّوا المزيجَ فوقَ الشّبكة، فرشحَت المياهُ عبرها إلى أرضيَّةِ وعاءٍ موضوعٍ أسفل الشّبكة، بينما تجمّعَ النِّفطُ فوقها لينزلق بسهولةٍ ضمن وعاءٍ منفصلٍ بمجرَّدِ إمالةِ الشّبكة.

يعدُّ طلاءُ الشّبكةِ أحدَ تكنولوجيّاتِ النّانو المستوحاة من الطّبيعة قيد التّطويرِ في ولاية أوهايو، وقد وُصِّف في ورقتين بحثيتين(1) في مجلة Nature Scientific Reports، وتمتدُّ تطبيقاتُهُ المحتملةُ من تنظيف البُقعِ النّفطيَّةِ حتى تعقّبِ مكامن النّفطِ تحت سطحِ الأرض، ويؤكّدُ ذلك كلٌّ من بهارات بوشان (Bharat Bhushan) العالمُ البارزُ في أوهايو، وهاوارد وينبغلر (Howard D. Winbigler) الأستاذ في الهندسةِ الميكانيكيَّةِ في ولايةِ أوهايو بالقول: "إذا قسنا الأمرَ على نحوٍ أكبرَ، فقد نتمكّنُ باستخدام هذه الشّبكةِ من السّيطرةِ على التّسرُّبِ النّفطيِّ".

شكَّلت أوراقُ نباتِ اللوتس مصدرَ إلهامٍ جزئيٍّ لهذا العمل، حيث تقومُ سطوحها الوعرة بصدِّ الماءِ والسّماحِ للنفطِ بالعبور. ولإنشاء طلاءٍ يقوم بعملٍ معاكس لعملِ تلكَ الأوراق، اختار كلٌّ من بوشان وَالباحثُ فيليب براون (Philip Brown) تغطية السّطحِ الوعرِ بالبوليمير المضافِ مع جزيئاتٍ من مخفّضاتِ التّوترِ السّطحي (surfactant)(2).

قامَ الباحثان برشِّ غبارٍ ناعمٍ من الجزيئات النانويّةِ السّيليكاتيَّة فوقَ شبكةٍ من الفولاذ المقاوم للصّدأ بهدفِ تشكيلِ سطحٍ وعرٍ عشوائيّ، ثمَّ أضافا أعلاها طبقاتٍ من البوليمير، ومخفِّضاتِ التّوترِ السَّطحيّ، ويقولُ براون: "إنّ السّيليكا، ومخفّضاتُ التّوترِ السّطحيِّ، والبوليميرُ، والفولاذ المقاومُ للصّدأ، هي جميعاً موادٌ غير سامّة وغير مكلفةٍ نسبيّاً". كما يَعتقدُ براون أنه بالإمكانِ إنتاجُ شبكةٍ أكبر بأقلِّ من دولارٍ للقدمِ المربَّعِ الواحد.

يتميَّزُ الطّلاءُ الموضوعُ فوق الشّبكةِ بصعوبة رؤيتهِ لكونه بثخانةِ بِضعَةِ مئاتٍ من النّانومترات فقط (جُزءٌ من مليارٍ من المتر)، كما تتميّز الشّبكة المطليَّة لدى لمسها بصعوبة الإحساس بوعورة سطحها أكثرَ من الشّبكةِ غيرِ المطليَّة، وكذلك بلمعانٍ أقلَّ لكونِ الطلاءِ شفّافاً بنسبةِ 70% فقط.

يكمُنُ سببُ استخدامِ الباحثين للسيليكا في كونِها من العناصرِ المكوّنةِ للزّجاج، ولرغبتهم في استكشافِ إمكانيّاتِ هذه التقنيّة في إنشاء طلاءاتٍ زجاجيّةٍ خاليةٍ من التّشوُّهات. ويمكنُ استخدامُ الطّلاءِ ذو الشفافيّةِ بنسبةِ 70% في بعضِ تطبيقاتِ زجاجِ السّيارات كالمرايا، لكن لا يمكنُ استخدامُهُ في معظمِ نوافذِ أو أسطحِ الهاتفِ الذكي، وَلذلك يقول بوشان: "هدفُنا التّوصُّل إلى شفافيّةٍ بحدودِ 90%،"، وَيضيفُ قائلاً: "يؤدي تشكيلُ تركيباتٍ مختلفةٍ من المكوّناتِ في الطّبقاتِ إلى خصائصَ مختلفةٍ لكلِّ الطّلاءاتِ التي نقومُ بتصنيعها، وَتكمُنُ الحيلةُ في اختيارِ الطّبقاتِ الصّحيحةِ للحصول على تلكَ الشّفافيَّة".

كما أوضح بوشان أنَّ تشكيل تركيباتٍ معيّنةٍ من الطّبقات يُنتِجُ جزيئاتٍ نانويّةٍ ترتبط بالنفط بدلاً من صدِّه، ويمكن استعمالُ مثل هذه الجزيئاتِ لاكتشافِ النّفط تحت الأرض، أو لتساعدَ في إزالتهِ في حالةِ انسكابه.

بنفس الطّريقةِ يلعبُ شكلُ التّركيبِ النانوي دوراً هامّاً. ففي مشروعٍ آخر، يقومُ الباحثُ ديف مهراج (Dave Maharaj) بالتحقق مما يحدُث إذا ما تمَّت صناعة السّطحِ من أنابيب نانويّة. حيث يختبرُ مهراج بدلاً من السّيليكا، أنابيبَ ثاني كبريت الموليبدنوم (molybdenum disulfide) النانويّة التي تمتزج جيّداً مع النّفط، وهيَ أصغرُ بألفِ مرّةٍ تقريباً من شعرةِ الإنسان.

قامَ مهراج بقياسِ الاحتكاك على سطحِ الأنابيبِ النّانويّة، وعرَّضها للضّغط بهدفِ اختبار تماسُكها تحتَ الضّغط، وقد أوضحَ قائلاً: "هناكَ عيوبٌ طبيعيَّةٌ في بُنيةِ الأنابيب النانويّة تسبِّبُ لدى تعرضها لحمولاتٍ عاليةٍ فصلَ طبقاتِ الأنابيب وتشكيل سطحٍ يقلِّلُ من الاحتكاكِ بشكلٍ كبير".

يعتقدُ بوشان بأنَّ توافُقَ مركَّب الموليبدنوم مع النّفط، إلى جانبِ قدرتهِ على إنقاصِ الاحتكاك، سيجعلُ منهُ مضافاً جيّداً لزيوتِ التّشحيمِ السّائلة. بالإضافةِ إلى ذلك، قد يَلزمُ للأجهزةِ المجهريَّةِ وذاتِ المقياسِ النّانويِّ أن تكون الزّيوتُ التّجاريَّةُ فيها لزجة جداً لكي تسمحَ لها أن تعملَ بكفاءة، وفي هذهِ الحالة يمكنُ لأنابيبِ الموليبدنوم النّانويَّة وحدَها أن تُستعمَل لتقليلِ الاحتكاك.

لقد بدأ هذا العمل منذُ أكثرِ مِن عشرَةِ أعوام، وذلك عندما بدأ بوشان بإنشاءِ وَتسجيلِ براءاتِ اختراعٍ لطلاءاتٍ ذاتِ تركيبٍ نانويٍّ تُحاكي عملَ ورقةِ نباتِ اللّوتس، حيثُ عملَ مع فريقهِ على توسيعِ مفعولِها وَتكييفِها لحالاتٍ مختلفة؛ وَيقولُ بوشان: "لقد درسنا العديد من الأسطُحِ الطّبيعيَّةِ، من الأوراقِ إلى أجنحةِ الفراشاتِ وجلدِ القرش، لفهمِ طريقة الطّبيعةِ في حلَّ بعض المشاكل، والآن نريدُ أن نتجاوزَ ما تفعلهُ الطّبيعة من أجلِ حلِّ مشاكلَ جديدة".

يوافقُ براون كلامَ بوشان ويؤكّد: "تصلُ الطّبيعة إلى الحدِّ الأقصى لما يمكنها فعله، ولصدِّ الموادِ الاصطناعيَّةِ كالزّيوت، فإنَّنا نحتاجُ أن نواكِبَ مستوىً آخرَ من الكيمياءِ لا تستطيعُ الطّبيعة أن تصلَ إليه".

المصدر:

هنا

(1) للاطلاع على الورقتين البحثيتين اللتان توصّفان الطلاء المستخدم:

هنا

هنا

(2) مخفّضاتُ التوتُّرِ السطحيِّ (Surfactant): هي موادٌ كيميائيةٌ تخفِّضُ التّوتّرَ السَّطحيَّ بين مادتين سائلتين أو مادّةٍ سائلةٍ ومادّةٍ صُلبة وهي التي تعطي قدرة التنظيف للصَّابون والمنظّفات.