علم النفس > الأطفال والمراهقين

إيذاء الذات- الجزء الثاني

ماذا تفعل عندما تكون متوتراً؟ هل تقوم بمحادثة أصدقائك؟ الاستماع للموسيقا؟ تتناول شرابك المفضل أو تأكل بعض الآيس كريم؟ أو ربما تقوم بممارسة اليوغا؟ كل هذه الأمور الممتعة تبدو مألوفة لمعظمنا.. ولكن هل كنت تعرف أنَّ هناك ممارسات أخرى ممتعة لا تخطر لك على بال، ويتبعها البعض للحد من التوتر النفسي؟

من هذه الطرق قيام الشخص المتوتر بجرح ذراعه بسكين حتى يسيل الدم من الجرح! فعملية إيقاع الأذى بالجسد هو ما يفعله ملايين الأشخاص - وخاصة المراهقون و الشباب- عندما يشعرون بالتوتر والضغط النفسي.

هذا السلوك يسمى"إيذاء الذات"، وتعتبر عمليتا جرح أو حرق الجلد أكثر أشكاله شيوعاً. تعرفنا على إيذاء الذات للمرة الأولى في مقال سابق تجده هنا ، وقد تحدثنا فيه عن الظاهرة وبعض من الأسباب التي تدفع بالأفراد للقيام بأفعال مماثلة، ووجهة نظرهم. أما في هذا المقال فسنحاول تفسيرها وتسليط الضوء على الأبحاث التي قد تساعدنا في فهمها.

يعتقد العديد من الأطباء والمعالجين النفسيين وأفراد أسرة المصاب أنَّ مبتغاه في المقام الأول من قيامه بمثل تلك الأفعال هو التلاعُب بمشاعر من حوله، أي إثارة خوفهم عليه. إلّا أنَّ الأبحاث التي أجريت مؤخراً بيّنت أنَّ مثل تلك الممارسات الاجتماعية، غالباً ما تشكل صيحات استغاثة من قبل المصاب أكثر من كونها أفعالاً يقوم بها الشخص المتوتر بدمٍ بارد لاستثارة مشاعر المشرفين على المعالجة. وبالرغم من وجود العديد من الأسباب الكامنة وراء اتباع بعض الاشخاص لهذا النوع من السلوك عند التوتر، إلّا أنّ السبب الأكثر شيوعاً وغرابةً، والذي أكدت عليه بعض الدراسات، يعود ببساطة الى أنَّ الألم يقود هؤلاء الأشخاص إلى الإحساس بشعورٍ أفضل. فعلى سبيل المثال، أجرى الباحث Schmahl وزملائه مسحاً ضوئياً لأدمغة بعض الأشخاص ممن سبق لهم وأن قاموا بإيذاء أنفسهم عمداً أثناء أدائهم لمهمة تجريبية مؤلمة تحاكي عملية إيذاء الذات. حيث وجد الباحثون أنَّ شعور هؤلاء الأشخاص بالألم أدى إلى انخفاض النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالمشاعر السلبية. مما أثار لديهم سؤالاً محيراً: كيف يمكن للألم الذاتي أن يُفضي إلى شعورٍ أفضل؟!

أحد الأجوبة المحتملة لهذا السؤال هو أنّ بعض الناس ببساطة يرغبون بالشعور بالألم بالفطرة! وعلى الرغم من أنّ عملية إيذاء الذات تؤدي إلى زيادة نسبة تحمّل الألم، إلا أنَّ الأشخاص المنخرطين في ذلك يُعبِّرون عن شعورهم بالألم، ولا يشعرون أنَّ هذا الألم ممتع، بل إنه يريحهم فقط. أما السبب الكامن وراء انخراط هؤلاء الأشخاص بعملية إيذاء ذاتهم وقيامهم بهذا السلوك بشكل معتدل (على سبيل المثال جرح الجلد) وابتعادهم عن إيذاء أنفسهم بشدة (كبتر أحد أطرافهم) ما زال مبهماً حتى الآن. إنَّهم مجبولون على الشعور بالألم لدى تعرضهم لضغط و توتر نفسي!

هناك إجابة أخرى ممكنة لسؤالنا وهي: أنَّ هؤلاء الأشخاص يرغبون بمعاقبة أنفسهم، فهم يميلون لفكرة العقاب بحد ذاتها. صحيح أنَّ الرغبة بالعقاب الذاتي هي أحد أسباب ممارسة إيذاء الذات. ولكن العقوبات تزيد من المشاعر السلبية لدى الشخص ولا يمكن اعتبار العقاب الذاتي سبباً في تقليل إيذاء الذات من المشاعر السلبية. حيث يظهر خلال عملية إيذاء الذات شعورٌ آخر مصاحب للأحاسيس السلبية المرتبطة بالألم والعقاب الذاتي معاً، وتبين الدراسات أنَّ هذا الشعور الآخر يساهم في تخفيف وإزالة الألم الشديد.

لتوضيح الفكرة أكثر، سأعرض لكم هذا الموقف: تخيل نفسك في صباح أحد الأيام في زيارة دورية لعيادة طبيبك بغية إجراء فحصٍ دوري، ثم تتلقى مكالمة هاتفية من عيادة طبيبك بعد ظهر ذلك اليوم لإعلامك بأنَّك مصاب بمرض السرطان وفي مراحل متقدمة منه، وأنَّه قد بقي من عمرك أسابيع قليلة! الآن تصور أنَّ عيادة الطبيب قد عاودت الاتصال بك بعد مرور 5 دقائق، لتخبرك أنَّ التباساً قد حصل حول التحاليل الخاصة بك مع تحاليل شخصٍ آخر، وأنَّك في الواقع بصحة جيدة. حينها ستشعر بالارتياح التام الذي سيستمر لساعات و ربما لأيام، غير أنّ حالتك النفسية لن تعود فوراً إلى ما كانت عليه قبل المكالمة الأولى. فشعورك هذا لا يشبه تلك الراحة التي تشعر بها لدى فوزك باليانصيب على سبيل المثال، فهذا فقط عرض ثم إلغاء لخبرٍ سيء.

وتشير دراسة جديدة حول هذا الموضوع، أنّ التعرّض لألم جسدي ثم إزالة الألم الناتج عنه له تأثير مماثل. فقد وجد الباحث .Bresin وزملاؤه أنّ تبديد مختلف أشكال الألم تَرافق مع انخفاض نسبة المشاعر السلبية عند هؤلاء الذين لم يقوموا بإيذاء أنفسهم مسبقاً. و بذلك يظهر هذا التأثير بشكلٍ جلي عند الأشخاص ذوي المستويات المرتفعة من المشاعر السلبية. وعلى هذا، يساهم الاستنتاج الأخير في توضيح سبب لجوء هؤلاء ممن يعانون من ارتفاع المشاعر السلبية إلى اتباع سلوك إيذاء الذات للتخفيف منها، وبالتالي الشعور بالراحة. و قد أثبت الباحث Franklin وزملاؤه باستخدام معايير بيولوجية، أنّ للمشاعر السلبية تأثيراً مشابهاً لدى الأشخاص بغض النظر عن قيامهم بإيذاء أنفسهم أم لا. و بهذا نجد أنَّ تلك النتائج مثيرة للاهتمام؛ فهي تفيد أنَّ كلاً من المشاعر السلبية والشعور بالألم يتم علاجهما من خلال علاج الخلل في المناطق الدماغية ذاتها. مما يعني أنَّ العلاج من الألم والمشاعر السلبية هو علاج واحد. و بالنتيجة، تًبيّن أنّ مسكنات الألم كالأسيتامينوفين تساعد في تخفيف الألم العاطفي.

يرى الكثير من الناس أنَّه من الصعب الحصول على الدعم العاطفي باتباع الطرق التقليدية (كالتحدث مع الأصدقاء على سبيل المثال)، و بالتالي فهم يلجأون إلى طرق تفيدهم في التخلص من الألم لإيجاد دعم عاطفي. ولكن لسوء الحظ، هذا يعني أنَّهم يقومون بإيذاء أنفسهم لخلق ألم شديد لكسب ذلك الدعم. وعلى الرغم من كون ذلك وسيلة فعّالة للحصول على مبتغاهم، إلّا أنَّ سلوك إيذاء الذات خَطِرٌ على صحة المصاب ومرتبطٌ بزيادة تعرُّضه للانتحار. باختصار، يمكن لسلوك إيذاء الذات أن يكون مسلكاً جيداً بغية كسب الدعم العاطفي المؤقت، إلا أنَّ له تأثيراً سلبياً على الصحة وهو مجرد خداع للنفس وليس حلاً للمشاكل التي تواجهنا.

من الجدير بالذكر أيضاً أنًّ الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يقومون بإيذاء انفسهم لا يسعون للعلاج، فهم ببساطة يسعون لكسب الدعم العاطفي من الآخرين والمرافق لإزالة ألم شديد سببوه لأنفسهم. حيث يجدون صعوبة في العثور على طرق صحية يمكن اتبعاها للتخفيف من حدة التوتر لديهم. و بناء على ذلك فإنَّ نبذ مثل هؤلاء الأشخاص في المجتمع يزيد من حدة توترهم وبالتالي يقومون بممارسة إيذاء الذات بشكل أسوأ. فالطريقة الأفضل الممكن اتباعها لمساعدة هؤلاء الأشخاص هي إرشادهم لاتباع طرق صحية تمكنهم من الشعور بالراحة وتخلِّصهم من التوتر.

المصادر:

هنا