الهندسة والآليات > مهندسون مبدعون

ابن الهيثم وقمرته المظلمة: نبض الحياة المعاصرة

سيدُ مهندسي عصره، ومصحح فكرِ غيرهِ، شملت علومُهُ شتى المجالات فكان وبلا جدلٍ عالماً موسوعياً. جاب بلاد العرب ليملئها علما، إلا أن قاهرةَ المعّزِ كانت خُلوتَهُ ومنارتَه، فأنار منها أبصار الباحثين ووضع المنهج للعالم الأمين. إنه الحسن بن الهيثم. مقالنا التالي يتحدث عن ابن الهيثم المهندس.

كان أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم ( 965 البصرة - 1040 القاهرة) عالما موسوعيا* بارزا من العصر الذهبي للحضارة الاسلامية، وعرف باسم ابن الهيثم وأحيانا البصري نسبة إلى مسقط رأسه في مدينة البصرة، وعرف أيضا بالاسم اللاتيني Alhzen أو alhacen. ولد عام 965 في البصرة في العراق وعاش أغلب حياته في القاهرة، مصر. و توفي عن عمر يناهز ال 76.

قدم ابن الهيثم اسهامات كبيرة في مبادئ علم البصريات، فضلا عن الفيزياء، الفلك، الرياضيات، طب العيون، الفلسفة والإدراك البصري. إضافة إلى دوره الكبير في إرساء أسس المنهج العلمي*. و كان يلقب في أوروبا في العصور الوسطى ببطليموس الثاني أو ببساطة "الفيزيائي"، وذك بسبب

التعليقات التي أبداها حول نظريات ارسطو وبطليموس واقليدس، فقام بإثبات بعض المفاهيم و صحح أخرى، كتصحيحه للفكرة السائدة آنذاك بأن الضوء يأتي من العين للجسم و لكنه أثبت أن العكس هو الصحيح، ولعل أحد أهم النقاط هو أنه كان أول من قدم تشريحا كاملا للعين ووظائف أعضائها، كما أن "مسألة ابن الهيثم" هي إحدى النظريات التي لازالت تعرف باسمه حتى الآن والتي كانت تحمل أفكارا عن انعكاس الضوء على المرايا الكروية. وتخليدا لاسمه تم تسمية إحدى الفجوات البركانية على سطح القمر باسمه. كما في عام 1999، حيث تم اطلاق اسمه على أحد الكويكبات المكتشفة.

منطلقا من ثقته الكبيرة ومعارفه الخاصة بالرياضيات والتطبيقات المستندة عليها، قام بإطلاق فكرة تنظيم فيضانات نهر النيل باستخدام الرياضيات وقيل على لسانه: "لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً

يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان" وعندما وصل الخبر إلى الخليفة الفاطمي السادس الحاكم بأمر الله أرسل إليه طالبا حضوره إلى مصر فلبى ابن الهيثم الطلب وباشر بدراسة النهر على طول مجراه ولكن حال وصوله إلى قرب أسوان حيث تنحدر مياه النيل، أدرك صعوبة ما كان يتخيله وعاد إلى الحاكم بأمر الله معتذرا، فقبل الحاكم اعتذاره و لكن ابن الهيثم ظن أن الحاكم تظاهر بالرضى وخشي أن يكيد له فتظاهر بالجنون واعتزل ما تبقى من حياته وطوى سنواته الأخيرة في حقول العلم.

ولعل مجالات أعمال ابن الهيثم قد تحتاج إلى مجلدات للكلام عنها فإننا سنعمد إلى التركيز على عمله الخاص بما يعرف بالقمرة والتي كانت الأساس لاختراع الكاميرا لأهمية هذا العمل وأثاره الكبيرة.

كان ابن الهيثم حاد الملاحظة والذكاء حاله كحال معظم الرياضيين والفلاسفة العظماء، ففي أحد الأيام بينما كان في غرفة لاحظ الضوء القادم من خلال شق صغير في زجاج النافذة، حيث كان شعاع الضوء منعكسا على الجدار المقابل يشبه حال صورة الشمس أثناء الكسوف أي بشكل هلال. و قال إن الشمس حينما يكون الكسوف الشمسي غير كاملا تقدم لنا فكرة مهمة ألا وهي أن الضوء المنبعث منها والمار من خلال ثقب دائري صغير ينعكس على المكان المقابل لذلك الثقب مشكلا ما يشبه الهلال. و من خلال خبرته استطاع تفسير أن الضوء المنتقل بشكل خط مستقيم، وعندما ينعكس على أجسام برّاقة مرورا بثقب صغير فإنه لا يتبعثر بل إنه يعبر ويعيد تشكيل نفسه رأسا على عقب على سطح مستو أبيض و بشكل يوازي الثقب المار منه. وبيّن لاحقا أنه كلما كان الثقب أصغر فإن الصورة المنعكسة ستكون أوضح. وكانت النتيجة العملية التي وصل لها بأن أشعة الشمس عندما تمر من خلال ثقب فإنها تشكل شكلا مخروطيا حيث أن رأس المخروط يكون هو الثقب المار منه الضوء و قاعدة المخروط هي عبارة مسقط الأشعة المارة على الجدار أو السطح الموازي للثقب وذلك ضمن غرفة مظلمة.

وفي مراحل لاحقة أدى هذا الاكتشاف إلى اختراع كاميرا الحجرة المظلمة، و قام ابن الهيثم بإنشاء أول كاميرا في التاريخ وهي كاميرا ذات الثقب أو الحجرة المظلمة. و ذهب إلى تفسير أننا نرى الأشياء بالشكل السليم عكس الكاميرا التي تراه بشكل مقلوب بسبب اتصالات الأعصاب البصرية في الدماغ، والتي تحلل وتشكل الصورة. ترجمت العديد من أعمال ابن الهيثم إلى اللاتينية وخاصة كتابة الهائل عن العدسات وكانت المرجع الأساسي لمفكرين القرن الثالث عشر والخامس عشر ( كأعمال ليوناردو دافنشي التي استند بها على كتب ابن الهيثم ).

و في يومنا الحاضر وبالرغم من شكل الكاميرا المتطور الرقمي إلا أن أسس عملها ما زال معتمدا على قمرة ابن الهيثم المظلمة. أما فيما يخص علم البصريات فقد ساهمت أبحاث ابن الهيثم في تطور علوم كثيرة كعلوم الليزر والعدسات والكثير من الأبحاث البصرية الأخرى. وبذلك يكون ابن الهيثم من أبرز رواد حقبة ذهبية ملأت الدنيا علما. وعلى أمل أن ينشأ جيل يستفيق لحمل إرث ابن الهيثم وتطويره وبدء عصر ذهبي جديد.

نترككم مع هذا الفلم القصير الذي يظهر ابن الهيثم وهو يتحدث عن الاختراعات التي توالت اعتمادا على القمرة المظلمة.

* مصطلحات:

• عالم موسوعي: هو عبارة عن مصطلح يستخدم للإشارة إلى عالم في عصر النهضة والعصر الذهبي للإسلام، حيث تمتد خبرات هذا العالم إلى عدد كبير من المجالات.

• المنهج العلمي: هي عبارة عن تقنيات وطرق لفحص وتحليل الظواهر والتجارب، حيث أنه قبل وجود المنهج العلمي كانت معظم الأفكار والنظريات تعتمد على الجانب النظري فقط بدون الأخذ باثباتها تجريبيا، وكان ابن الهيثم أول من أرسى فكرة أنه يجب إثبات النظرية الفيزيائية عمليا عند طرحها.

المصدر: هنا

مصدر الصورة: هنا