الكيمياء والصيدلة > كيمياء

النوم والذاكرة.. ما السّرّ الغامض؟

لطالما عَلِم الباحثون بوجود ارتباط وثيق بين النوم والتعلّم والذاكرة. فأغلب الكائنات من الذباب إلى الإنسان تعاني من صعوبة في التذكُّر عند حرمانها من النوم، وقد أوضحت الدراسات أنَّ النوم عامل حاسم في تحوُّل الذاكرة قصيرة الأمد إلى ذاكرة طويلة الأمد، وهي العملية المعروفة بتعزيز الذاكرة أو تقويتها، لكن بقيت كيفية حدوث هذه العملية لغزاً محيّراً.

وبعد مضي أكثر من 100 عام على اكتشاف العلماء صلة النوم بتشكُّل الذكريات في دماغنا، كشفَت -وأخيراً- إحدى الدراسات سبب هذه الصلة.

حيث تحدُث الكثير من العمليات الهامّة في دماغنا فقط أثناء النوم. وقد اكتشف العلماء مؤخراً عمليّةً جديدة توضّح كيفيّة إنتاج الدماغ لمواد كيميائية خاصة خلال النوم، ليس لتشكيل الذكريات فحسب، وإنّما لإعادة إحياء أحداث ماضية أيضاً. وتسمّى هذه المادّة الكيميائيّة المحرَّضة بالنوم 4EBP2.

وكانت قد أظهرت دراسة سابقة أنّه عند حرمان فأر مخبري من النوم، سيحوي دماغه على مستويات متدنية من4EBP2، وسيعاني من صعوبة في تذكر الأشياء.

ولمعرفة ما إذا كان هناك صلة بين هذين العاملين قام الباحثون بحقن كمية زائدة من 4EBP2 في دماغ الفأر ومن ثم إبقائه مستيقظاً طوال الليل. وكانت النتيجة بأن بقيت ذاكرة الفأر طبيعية.

وتمثَّل الجزء الثاني من هذه التجربة بالتحقيق بكيفية تشكيل الذكريات الجديدة خلال النوم وتغيُّر الذكريات الموجودة أصلاً.

فقام الفريق بمراقبة دماغ الفئران خلال استيقاظها وممارستها نشاطها في أقفاصها، ولاحظوا تنشط خلايا دماغية معيّنة عند دخول الفئران لمنطقة محددة في القفص، وتنشط مجموعة أخرى من الخلايا الدماغية عند دخولها منطقة أخرى. وهكذا تنشّطت مجموعات مختلفة من الخلايا في كلّ منطقة من القفص. وفي تلك الليلة أظهر المسح الدماغي حدوث تنشيط للتسلسل نفسه من خلايا الدماغ، ممّا دفع للاستنتاج بأن الفئران كانت وبشكل لا واعٍ تعيد تتبع خطواتها خلال نومها، وذلك غالباً لمساعدتها على تذكّر الأماكن التي تواجدت فيها.

والسؤال الذي يُطرح هنا، هل الآلية التي تعزز النوم هي نفسها التي تقوّي الذاكرة أم تتمّ هاتان العمليتان المختلفتان معاً؟ بمعنى آخر، هل تتمّ تقوية الذاكرة أثناء النوم لأن الدماغ هادئ، الأمر الذي يسمح لعصبونات الذاكرة بالعمل أم أنّ عصبونات الذّاكرة هي التي ترسلنا إلى النوم؟

في دراسة أخرى على العصبونات المتوسطة الظاهريّة المزدوجة (DPM) عند ذبابة الفاكهة، والمعروفة بمعززات (مقوّيات) الذاكرة، لاحظ الباحثون ولأول مرّة أنّ الذبابات تنام أكثر عند تفعيل هذه العصبونات، وتستمر بالطنين عند تثبيطها.

حيث تُثبِط معززات الذاكرة هذه حالة اليقظة عندما تبدأ بتحويل الذاكرة قصيرة الأمد إلى ذاكرة طويلة الأمد. وكل ذلك يجري في جزء من دماغ ذبابة الفاكهة المدعو بالجسم الفطري والمشابه للحصين، الذي تُخزَن فيه ذكرياتنا. وكما تبيّن أنّ جزء الجسم الفطري المسؤول عن الذاكرة والتعلم يساعد أيضا ً في إبقاء ذبابة الفاكهة يقظة، وكأنَّ هذا الجزء من الجسم الفطري يقول: "ابقَ يقظاً وتعلّم هذا." ثمّ بعد فترة تبدأ العصبونات بإرسال إشارات كبح لذلك الجزء، كما لو أنّها تقول: "عليك النوم إن كنت تريد تذكر ما تعلّمته لاحقاً."

هل من الممكن إحداث تغييرات في تشكيل الذكريات؟

لاكتشاف حقيقة هذا الأمر، قام فريق آخر -ممّن شاركوا في الدراسة المذكورة أوّلاً- بتحفيز مركز المتعة في دماغ الفئران أثناء استيقاظها كلما دخلت موقعاً معيناً من القفص، وكانوا يأملون بأنه من خلال تكرارهم لهذه العملية بعددٍ كافٍ من المرات، سيرتبط لا شعورياً مكان محدد بذكرى مبهجة، فكانت النتيجة بأن ذهبت هذه الفئران عند استيقاظها مباشرةً إلى هذا الموقع، بحثاً عن شعور مبهج!

وقد تبدو هذه الدّراسة غريبة أو حتى مخيفة، حيث مكّنت الباحثين من التلاعب اصطناعياً بأدمغة الفئران لتشكيل ذكريات إيجابية، ولكنها بنفس الوقت تقدّم أملاً حقيقياً للأشخاص الذين اضطروا للمرور بتجارب صعبة نتيجةً للاضطرابات التالية للصدمة. فهي لا تتعلق بدفع دماغ أحدهم لنسيان تجربةٍ ما، بل بإمكانية تحديد متى يحلم الشخص بتجربة صادمة ومؤلمة، وحذف السلبيات المرتبطة بها، ثم استبدالها بأخرى إيجابية. أو بشكل أساسي، إعطاء الدماغ فرصة لتصحيح المشاعر السلبية الدائمة المرتبطة بحدث سابق.

وتجدر الإشارة إلى قول الباحثين أنّ الوجبات المتأخرة ليلاً يمكنها تشويش قدرة الدماغ على تشكيل الذكريات أثناء نومنا. حيث وجد الباحثون انخفاضاً في أداء الفئران في اختبارات الذاكرة في اليوم التالي لإطعامها خلال أوقات نومها الاعتيادية، رغم حصولها على القدر الاعتيادي من النوم، وهذا شيء يجدر بك تذكّره إن كان لديك امتحان بوقت قريب.

المصادر : هنا

هنا