التاريخ وعلم الآثار > التاريخ

قصة التضحية البشرية، هل قام بها المصريون حقا؟

تُطرح العديد من الأسئلة عن الحياة في زمن الفراعنة، إذ لازلنا نكتشف يوماً بعد يوم معلومات جديدة عن ذلك المجتمع تفصح لنا عن تعقيدات ذلك المجتمع وحضاريته، لم تكن مجرد مرحلة قديمة من تاريخ مصر، بل كانت سلسلة من السلوكيات والأفعال التي تدل على تقدم ذلك المجتمع، واليوم سنتحدث عن التضحية البشرية ونقارن في هذا البحث بين الوثائق التي وصلتنا عن المصريين القدماء، وهنا يطرح السؤال نفسه، هل فعلا قام المصريون القدماء بالتضحية البشرية؟ دعونا نكتشف ذلك في هذا المقال.

بفضل فولكلور هوليوود و بعض خرافاتها، تمسك العديد من الناس باعتقاد أن الفراعنة المصريين القدماء قد دفنوا و بشكل منتظم أمناءهم وأسرهم معهم عندما ماتوا، و هي مغالطة أسست من قبل الأفلام الضخمة وعلماء المصريات الزائفين والمزورين تقول بأن الفرعون كان يأخذ معه زوجاته، خدمه و موظفيه إلى ما بعد الحياة، وهي أسطورة يجب تفنيدها ولكن من أين بدأ هذا الاعتقاد الخاطئ؟ على ما يبدو أن ما حصل هو تحويل جزء صغير من الحقيقة إلى سمة عامة والتفسير الأفضل هو أن المصريين القدماء قد مارسوا التضحية البشرية و لكن ليس بتاريخهم الكبير الذي يمتد على 4000 عام .

إن أول سؤال بديهي يجب أن يسأل هو "لماذا؟"

لقد كان هنالك نوعان من التضحية البشرية في مصر القديمة :

1- تقديم الانسان كعبادة، كان أغلب ضحايا هذا النوع من التضحية من المجرمين أو سجناء الحرب واستخدموا للتضحية لإعادة نظام الكون وتأكيد دور الملك كالضامن الأساسي له، في بعض الحالات، كانت التضحية هي شكل طقسي أو ديني لعقوبة الاعدام المعروفة

2-قتل الأمناء أو الخدم بعد موت الملك ليرافقوه في الحياة الأخرى، هذه المقالة تركز على هذا النوع من التضحية بما أنه النوع الذي أحيكت عنه الأساطير التي تنتشر بسهولة بين العامة، لما فعل الفراعنة الأوائل هذا ؟

أحد الأفكار الأساسية تقول بأن هذه التضحية كانت إحدى السبل لإظهار قوتهم، كان الفراعنة يمثلون كآلهة في أشكال بشرية و لذلك كان من المستحيل إقناع عامة الناس بإعطاء حياتهم طوعياً للملك إن لم يؤمنوا بحياة ما بعد الموت، هذا الاعتقاد كان أن ما يمتلكه الفرعون في الحياة يمتلكه أيضا بعد الموت و هذا لم يشمل فقط الماديات بل الأشخاص أيضاً كالخدم مثلاً، هذا الاعتقاد مكن الفرعون من الاستمرار بالعيش برفاهية حتى بعد مماته و ذهابه الى العالم السفلي، و كانت هناك عدة اقتراحات تقول أن بعض الأشخاص كانوا يتطوعون للتضحية لكي يحصلوا على الخلود و ليرفعوا من مراتبهم، بالضبط كما نرى الآن بعض المشاهير التي تزداد قيمتهم بشكل كبير بعد وفاتهم، على كل حال هذه الفكرة لم تعتمد تماماً كما اعتمدت فكرة أن هؤلاء الضحايا قد أجبروا على هذه الطقوس وقتلوا بمجازر في الوقت نفسه .

الأدلة :

لقد وجدت عادة التضحية البشرية في بداية مصر الفرعونية، أقرب الحالات يعود تاريخها إلى أواخر عصور ما قبل التاريخ المصرية في عهد نقادة الثانية ( 3500 – 3200 ق.م ) عندما اكتشف علماء المصريات جثثا مقطوعة الرأس وجدت في العديد من المقابر، و يتضح الدليل على التضحية البشرية في فترة الأسر الباكرة من مصر عندما كانت العاصمة ما تزال في أبيدوس، إذ احتوت غرفة دفن الملك حور-أحا على 36 قبر لذكور تراوحت أعمارهم بين 20- 25 ماتوا خنقاً، اقترح عالم المصريات جاكوبوس فان دايك أن "بالنظر إلى تقارب أعمار هؤلاء الرجال فإن من المرجح أنهم قتلوا في مجزرة واحدة"، و بالإضافة الى جثث الخدم وجد أيضا 6 قبور تحتوي على بقايا لموظفي المحاكم، المزيد من الخدم و بعض الحرفيين.

بدءاً بالملك حور-أحا و الفراعنة جر، دجيت، دن، سيمرخت، الملكة ميرت نيث و الفرعون قاع، جميعهم مارسوا التضحيات البشرية و التي عثر عليها في قبورهم و كان للملك دجيت حفيد حور-أحا 318 تضحية مدفونة معه ولكن بالاجمال تقدر التضحيات بأكثر من ذلك بكثير و قد تصل الى 580 تضحية.

يبدو من المستحيل أن جميع هؤلاء الأشخاص لقوا حتفهم في نفس الوقت لأسباب طبيعية مما يؤدي بعلماء المصريات إللى أن يعتقدوا أنهم كانوا أضحيات للانضمام لملوكهم في الآخرة. ومع ذلك، فإنه لم يكن حكراً على الملوك موضوع التضحية. والمصاطب في واجهة القصر الضخمة من الأسرة الأولى التي عثر عليها في سقارة والتي ليست لملوك قد تكون دليلاً على ذلك، وإذا كانت تلك هي الحقيقة فإن ذلك يعني أن بعض الأفراد حتى من الرتب العالية قد مارسوا التضحية البشرية وكأمثلة على ذلك نجد المصطبة 3504 في سقارة التي تعود الى فترة الملك "جت" و التي يبلغ حجمها ضعف حجم قبر الملك في أبيدوس احتوت 62 أضحية مدفونة أيضا. كما أن المصطبة 3503 التي تتبع الى الملكة ميريت نيث احتوت على 20 أضحية فرعية، لقد احتوت على عدد كبير من بقايا جثث تعود للعبيد المضحى بهم و بعض الجثث التي تعود لحرفيين دفنوا مع ادواتهم (نجار مع قارب خشبي وأواني الطلاء مع الرسام ) وهذا ما يدل على أن هذه التضحيات لم تكن حكراً على الملوك .

أما عند الأسرة الثانية فقد نقل الملوك مقابرهم من مقبرة أبيدوس إلى سقارة و كانت وجهة النظر التي تقول أن الأضحيات البشرية قد انتهت بعد انتهاء الأسرة الأولى هي الشائعة و الأكثر قبولاً أكاديمياً وكانت هناك آراء تنفي الموضوع من أساسه وبعض الآراء التي تعتقد أن الأضحيات قد استمرت. وذلك الاختلاف إلى تأريخات مختلفة للقبور و اختلاف الآراء حول وقت بنائها .

من هم الخدم المضحى بهم ؟ ..

أغلب هؤلاء الضحايا كانوا ذكراً في العشرينيات و كانوا على الأغلب من الحرس الملكي، و النساء هن زوجات وخدم وجوار للملوك، للأسف لا يمكن معرفة إلا القليل عن حياتهم مما سيشكل عائقاً أمام معرفة الأسباب التي أوقفت هذا النوع من الأضحيات في مصر .

يفترض البعض أن الخدم هم عبيد الفرعون في الحياة ولكن يقول آخرون أن الأشخاص قد اختيروا من عائلات النخبة لتعزيز الوحدة و الترابط بين المصريين و كانت أكثر أشكال التضحية شيوعا هي عبر حز العنق أو السم أو الخنق أو الدفن أحياء .

لماذا توقفت التضحية البشرية ؟

لما انتهت هذه الطقوس بعد الأسرة الأولى؟ لا يوجد أجوبة واضحة في الحقيقة و لكن يفترض الغالبية أنها توقفت بسبب التغيرات السياسية التي حصلت على تلك الأراضي و خصوصاً بعد فترة " كرمة " و سيطرة المصريين على أراضي نوبة ويبدو أنهم لم يمارسوا هذه التضحيات لما يقارب الألف عام ولكن بعد ذلك ظهر تلك الطقوس من جديد وتترافق مع انتهاء سيطرة المصريين السياسية، وكان الانتهاء الأخير لهذه الطقوس مترافقا مع دخول المسيحية الى منطقة نوبة .

كما يعزى هذا الانخفاض الى خلق تماثيل الشابتي و التي هي تماثيل تمثل الميت وتعطى هذه التماثيل لأوزيريس لإعفاء المتوفى من أي دين أو مهام قد يطلبها منه في الحياة الأخرى، و بعض الدلائل تشير الى أن الأضحيات قد استمرت في الأسرة الثانية ومنها اكتشاف بعض المنافذ في المقابر و التي يبدو أنها استخدمت في قبور الخدم في أبيدوس واستبدل هذه التضحيات فيما بعض تقديم الحيوانات في عصر الدولة الوسطى ( 1680 _ 1660 ق.م ) و قد عثر في تل الضبعة على قبور تحتوي حمير و ثلاث جثث انسانية وثور و هنالك بعض الآراء التي تقول أنهم تطوعوا للموت مع أسيادهم و لكن ذلك يبقى موضع شك بسبب تأخر تأريخ القبور عن تأريخ الجثث بفترات بسيطة .

و بشكل عام استبدلت كل هذه الطقوس تدريجياً بتقديم التماثيل الممثلة للأموات و عناية الأحياء بالأموات وتقديم الأضحيات الحيوانية و تراجعت التضحيات البشرية بسبب تأثيراتها الاقتصادية و الاجتماعية السلبية على الدولة و المجتمع و الأفراد.

المصدر:

هنا