الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الجزء الثالث: حركة الإصلاح الديني

إنّ أي نظرية سياسية في الفكر الفلسفي السياسي في القرن السادس عشر، كانت قد تأثّرت بحركة الإصلاح البروتستانتي أو ما يُسمى " حركة الإصلاح الديني". وجاءت هذه التسمية اعتماداً على مفهومين أساسيين: الاحتجاج protesting ضد فكرة معينة، والإشهاد على عقيدة أو إيمان the protestation فمن واجب البروتستانتي أن يشهد الناس على إيمانه.

رفض المُصلحون الدينيون أن تكون الكنيسة السبيل الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، خصوصاً بعد تفشّي الفساد فيها. فقد اتجه رجال الكنيسة للاهتمام باقتناء الأراضي والمُمتلكات وادعوا أنهم يُمثلون الله على الأرض وأنهم مصدر غفران الذنوب. واستحوذوا على الدين كله بعد أن استحوذوا على الكثير من ممتلكات الدنيا؛ فمنعوا الناس من تفسير الإنجيل وفهمه واستبدوا بالرأي. وقد رأت حركة الإصلاح الديني أنه ليس من حق الكنيسة أن تمنح الغفران الإلهي للناس أو أن تمنعه عنهم.

في عام 1517، وقعت أزمة كبيرة بين مارتن لوثر وكنيسة روما. عندما هاجم عملية بيع صكوك الغفران التي كانت تقوم بها الكنيسة لقاء مبالغ ضخمة تحصل عليها من الفقراء والبسطاء. فعلق أبحاثه ال95 على باب كنيسة الجامعة في مدينة فيتنبرج بغية مناقشتها. حيث أدان لوثر في أبحاثه عملية بيع صكوك الغفران، فأحدثت إدانته ضجة كبرى. شكلت قضية صكوك الغفران التي لجأ إليها البابا جول الثاني لاستكمال بناء كنيسة بطرس وتحول الأمر لمعاملات تجارية. انتدب البابا لمواجهة مارتن لوثر والرد على كتاباته الراهب سلفستر مازولتي، فألف كتاب "سلطة البابا" عمل فيه على تأييد سلطة البابا المطلقة، ودعا لوثر للمثول أمام المحكمة.

رد الكنيسة الكاثوليكية على حركة الإصلاح الديني:

- عملت الكنيسة الكاثوليكية بعض الإجراءات كرد على الحركة البروتستانتية منها، تأسيس الجمعية اليسوعية والتي اهتمت بالتبشير، وأقاموا كذلك جمعية رُهبانية نشيطة بهدف الحد من تمدّد البروتستانتينية، سُمّيت "جماعة الآباء اليسوعيين" وقد أسسها رجلٌ إسبانيٌّ يدعى أغناطيوس لويولا سنة 1534 ونالت موافقة البابا عام 1540 وكان مركزها مدينة روما.

- تنظيم محاكم التفتيش: أنشأ البابا محكمة عُليا عُرِفت بإسم (ديوان التفتيش)، وكانت غايتها محاربة البروتستانتينية.

- انعقاد مجمع ترانت الكبير: دعا له البابا بولس الثالث في منطقة التيرول الإيطالية، وذلك للنظر في شؤون الكنيسة وإصلاحها. وضم كِبار رجال الكاثوليكية في أوربا، واستغرقت أعماله 18 عاماً، من عام 1545 إلى عام 1563، وأقرَّ مصادر الإيمان وهي الكتاب المقدس مع تفاسير آباء الكنيسة، وأثبت أن اللغة اللاتينية هي لغة الاحتفالات الدينية والطقوس الكهنوتية، وأعلن أن البابا راعي الكنيسة يتمتع بسلطات واسعة.

كان لحركة لوثر صدىً في ألمانيا وانكلترا، لا سيّما بعد أن طوّر أفكاره القائمة على عدم وجود وساطة بين الخالق والمخلوق. وعمل على ترجمة الكتاب المُقدّس للألمانية ليسهل تداوله أمام الجميع. وألغى كذلك الأكيلروس، وحياة الدير وأبطل عبادة العذراء والقديسين والإيمان بالمظهر ثم نظم الكنيسة اللوثرية.

عندما كتب لهذه الحركة النجاح وانتشرت في أوروبا، صار الحكام والأمراء لا يدفعون الإتاوات المُقررة للكنيسة. وقد مهّد هذا لانفصال الكنائس عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وأصبحت كلمة البابا لا تُنفّذ إلا في روما؛ فضعفت السلطة الكنسية أمام ازدهار السلطة الدنيوية. وما لبثت أن عمّت تعاليم لوثر الدينية ألمانيا. عندما توفي 1546 كانت البروتستانتية قد سادت معظم بلدان أوروبا.

كان لحركة الإصلاح الديني أثراً كبيراً في تشجيع الحُكم الملكي و تقويته، ففي بداية القرن السادس عشر، ومع ظهور الملكيات المُطلقة كان الحكم الملكي على نزاع مستمر مع البابا وسلطته. إلى أن أتت حركة الإصلاح الديني وحسمت الصراع لصالح الملكية. وفتحت المجال كذلك لقيام الملكية القومية التي نظمت أوروبا تنظيماً جديداً على شكل دول قومية مستقلة. في هذه المرحلة؛ أُعيد للفكر السياسي عقيدة أهل العصور الوسطى، من أن الله مصدر السلطة السياسية، وأن صاحب السلطة هو ظل الله على الأرض. فوضع المصلحون هذه السلطة في أيدي الملوك والأمراء لكسب ودهم. ففي انكلترا، لم يتم الإصلاح إلا عن طريق سلطة هنري الثامن و بهذا قويت الملكية فيها.

و من بعد مارتن لوثر أتى كالفن، حيث تأثر بالثقافة الإنسانية وروّادها وتميّز بسعة إطلاع وثقافة واسعة. رحل إلى بال بعد أن ظهرت ميوله الإصلاحية وهنالك نشر كتابه "النظام المسيحي" الذي يعرف بأنه أقوى وأكمل الدراسات حول البروتستانتية آنذاك. تمحورت أفكار كالفن وطروحاته بأفكار لوثر الأساسية وهي" التبرير بالإيمان، العبادة البسيطة، الاعتماد على الكتاب المقدس وحده" وأضاف لها كذلك.

و هذا استعراضٌ سريع لأهم نتائج حركة الإصلاح الديني التي شكلت مِفصلاً تاريخياً على الصعيد الفلسفي والسياسي والديني الأوروبي:

1- انتهت وحدة العالم الأوربي الغربي دينياً لتتشكل خريطة جديدة قائمة على دولٍ سادت فيها اللوثرية، مثل ألمانيا واسكندنافيا. بينما سادت الانجليكانيكية في بريطانيا وسويسرا. وبقيت كاثوليكية مع فرنسا وإسبانيا.

2- لعبت حركة الإصلاح الديني دوراً في تنشيط الحياة الاقتصادية، حيث اُعتبر جهد الانسان وعمله جزء من الإيمان. وأن الحصول على الثروة والغنى أمر طبيعي ومشروع، وليس حكراً على رجال الدين.

3- دخول أوربا في فترة من الحروب الدينية، بين البروتستانـتـيـين والكاثوليك الرومان "حرب الثلاثين عاما"، وقد اشتركت دول أوروبية عديدة في تلك الحرب التي امتدت من عام 1618م إلى عام 1648.

4- عملت على تحرير الفرد وأنتجت تشجيعاً للحُكم الديمقراطي وأقرت حرية العقيدة والفكر والشخصية المستقلة.

5- عندما فشلت حركة الإصلاح الديني في فرنسا واسبانيا، بقي أنصارها يُشكلون أقلية ومصدر لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي؛ وهذا أنتج الكثير من الدراسات السياسية التي أغنت الدراسات الإنسانية في أوروبا . مما أدى إلى مناقشة حقوق الأقليات في المقاومة، حيث لعب المضطهدون من الحروب الدينية دوراً بارزاً في الحركة الفكرية في البلاد الشمالية والوسطى والاسكندنافية في أوروبا.

6- تنشيط حركة الترجمات وتأسيس الصحف والمجلات العلمية وكتابة وتأليف الكتب ونشرها في عموم أوروبا.

7- عمدت إلى الوقوف إلى جانب الملك وتقوية نفوذه.


المراجع :

1- بول هازار، أزمة الضمير الأوربي، ترجمة جودت عثمان ومحمد نجيب المستكاوي،(دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2004)

2- نور الدين حاطوم، تاريخ عصر النهضة الأوربية،(بيروت: دار الفكر، 1985).

3- جان توشار،موسوعة تاريخ الافكار السياسية،ترجمة ناجي الدراوشة،(دمشق:دار التكوين،الطبعة الأولى،2010).

4- الفكر السياسي الأوروبي،ميشال شيحة،(دمشق:منشورات جامعة دمشق،2010).