البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية

طريقة جديدة تعتمد على خلية مفردة لدراسات التأثيرات البيئية على الـ DNA

كثيراً ما نسمع خبراً عن أدويةٍ جديدةٍ فعالةٍ لعلاج بعض الأمراض أثبتت فعاليتها على الفئران وتنتظر التطبيق على الإنسان؛ في مثل هذه التجارب فإن الأمر كما ترون يحتاج إلى وجود حيوانات، بل وربما إلى أعدادٍ كبيرةٍ منها، لكننا اليوم نملك طريقةً توفر علينا كل هذا الجهد والعناء في ما يخصُّ الدراسات التي تتعلق بالجينات، إنها في الواقع تعتمد على الخلايا المفردة فقط وتعطينا نتائج فعالة، تعرفوا معنا على هذا في مقالنا..

وللسهولة وقبل أن نبدأ الحديث عن هذه التقنية، سنقدم لمحةً سريعةً مبسّطة عن الجينات-محور مقالنا هذا- ومن ثم سننتقل سويةً إلى صلب الموضوع:

يوجد في نواة كل خليةٍ المادةُ الوراثية(الحمض النووي*) الخاصة بها والتي تكون متطابقةً في كل خليةِ من خلايا الكائن الحي، وتتألف من تسلسلٍ معين من النكليوتيدات، والنكليوتيدات تتألف من جذر سكري خماسي منقوص الأوكسجين(محذوفٍ منه ذرة أوكسجين) ويرتبط معه جذر فوسفات وقاعدة نتروجينية؛ وتوجد أربع قواعد نتروجينية مختلفة في كل الكائنات الحية هي الأدينين والغوانين والثيامين والسيتوسين وبالتالي توجد أربعة أنواع فقط من النكليوتيدات تختلف عن بعضها بالقاعدة النتروجينية وتتماثل في الجذر السكري والفوسفاتي. تتواجد هذه النكليوتيدات مترابطةً مع بعضها على شكل سلسلتين متقابلتين تلتفان حول بعضهما بشكلٍ حلزوني. يمثل تتالي النكليوتيدات(تتالي ثلاث نكليوتيدات بالتحديد) شيفرة تعطي التعليمات لصناعة حمضٍ أميني معين وبارتباط الحموض الأمينية مع بعضها يتشكل البروتين(البروتين وحدة وظيفية وبنائية أساسية في الجسم لا يمكن الاستغناء عنها) وبذلك يعمل الجسم، لكن مناطق قليلة جداً من السلسلة المذكورة تُشفر للأحماض الأمينية وهي تشكل 2% من الحمض النووي في النواة والباقي لا يشفر للأحماض الأمينية بل هو مسؤول عن تحديد الأجزاء التي ستعمل من الـ 2% المشفرة للأحماض الأمينية. لكن قد يتغير واحد أو أكثر من النكليوتيدات المشفرة للأحماض الأمينية(طفرة) مما يؤدي إلى تغير في الحمض النووي الذي سيتشكل، أي أن تغير الحمض الأميني المُشَفَر يتم بتغير في أحد النكليوتيدات، ومن ناحية أخرى فقد يحدث تغير في الحمض الأميني المشفر دون تغير الجزء المُشَفِر وذلك يعود إلى الـ 98% من الحمض النووي التي تغير الأجزاء التي تعمل وبالتالي تغير الحمض الأميني وهذا ما يُسمى الـ Epigenetics، وباختصار هناك منطقة مسؤولة عن التشفير ومنطقة أخرى تتحكم في الأولى فإما أن يحدث طفرة في الأولى أو تغير الثانية مسار العمل.

وتجدر الإشارة في هذا المقال إلى أن الجينات(وهو مصطلحٌ) سنستخدمه بكثرةٍ في هذا المقال هي عبارةٌ عن تتالي عددٍ كبيرٍ من النكليوتيدات وبالتالي تشفر لعددٍ كبيرٍ من الحموض الأمينية التي تشكل عددٍ كبيراً من البروتينات

استطاع العلماء في معهد بابرهام تطوير طريقةٍ جديدةٍ تعتمد على خليةٍ مفردة بغية دراسة تأثيرات البيئة على تطورنا ونمونا وعلى الصفات التي نكسبها من الأبوين. تقوم هذه الطريقة على رسم خريطةٍ جينيةٍ كاملةٍ للـ Epigenetic marks** في الحمض النووي في خليةٍ مفردة وهذه الطريقة سوف تحسن فهمنا للتطور الجنيني(فهم الأطوار التي يمر بها الجنين) وتزيد من فعالية العلاجات السريرية كعلاج السرطان والعقم وستقلل بالتأكيد من عدد الفئران التي نستعملها في التجارب.

إن الـ Epigenetic marks هي بروتينات تُعلِّم مناطق معينة من الحمض النووي(عن طريق الارتباط معه في مناطق معينة وسنسميها في المقال "مُعلِّمات") كنوع من الذاكرة الخلوية. قد يبدو الكلام حتى الآن مبهماً لذلك سنوضح الموضوع بشكلٍ أفضل؛ إن هذه البروتينات لا تغير –كما ذكرنا- تسلسل النكليوتيدات في الحمض النووي فهي "فوق مورثية" لكنها تسجل ما مرت به الخلية من تغيرات(وهذا ما قصدناه بالذاكرة) على الحمض النووي، وتوضع هذه البروتينات المذكورة ضروريٌ جداً في تطورنا فهي تحدد الشكل الذي ستتطور له كل خلية، هل ستصبح الخلية عصبية أم جلدية أم غير ذلك؟.. وذلك عن طريق تفعيل مجموعةٍ معينةٍ من الجينات والتي بدورها تحدد البروتينات التي سيتم تركيبها وبالتالي تحديد ما ستصبح عليه الخلية(عصبية، جلدية..)، وباختصار توضع هذه البروتينات هو من يحدد الجينات التي ستعمل لكن عوامل بيئية كالغذاء تؤدي إلى توضع بروتينات في مناطق معينة من الحمض النووي وبالتالي تفعيل جينات معينة(لم تكن مفعّلة في الحالة الطبيعية) مما يؤثر على الصحة على المدى الطويل.

وقد قال الدكتور غايفن كيلسي من معهد بابرهام : إن قدرتنا على وضع خريطةٍ كاملةٍ للمُعَلِّمات من الخلايا المفردة سيكون هاماً جداً على صعيد فهمنا للتطور الجيني في مراحله الأولى وفي تطور السرطان وفي تطوير العلاج بالخلايا الجذعية.

وأضاف: لقد كانت دراسة التغيرات فوق الجينية تعتمدُ بشكلٍ كبير على الفئران كنموذجٍ حيوي أما الطريقة الجديدة المعتمدة على خلايا مفردة فإنها تعطينا إمكانياتٍ غير مسبوقةً لدراسة هذا النوع من التغيرات في التطوّر الجنيني في مراحله الأولى لدى الإنسان والذي كان محدوداً سابقاً بالعدد القليل من الأنسجة(الخلايا والمواد الموجود بينها) المتوفرة للدراسة.

وبهذا فإن البحث الجديد الذي نُشِر في Nature Methods يقدم طريقةً جديدةً معتمدةً على الخلايا المفردة قادرةً على تحليل الـ DNA Methylation والمقصود هنا بأن المُعلِّمات تحتوي على جذر الميثيلين (-CH3) وذلك في كامل الجينوم البشري(والمقصود بالجينوم البشري كامل الحمض النووي الخاص بالإنسان)، وتتم في هذه الطريقة معالجة الحمض النووي بالـ Bisulpite ومن ثم يتم تضخيم الحمض النووي الناتج(أي نسخه بأعداد كبيرة بطرق آلية) ومن ثم تتم قراءته(أي يتم التعرف على تسلسل النكليوتيدات فيه) ومعرفة الأماكن التي ارتبطت عليها المُعلِّمات وما هي الجينات التي تأثرت نتيجة هذا الارتباط.

إنّ هذه الطريقة تحدد كيف تقوم التغيرات فوق الوراثية في الخلايا المفردة بتوجيه هذه الخلايا في مراحل تطورها. ولقد كانت الطرق التقليدية تعتمد على مراقبة التغيرات فوق الوراثية في مجموعةٍ كبيرةٍ من الخلايا، وهذا ما أعاق إحداث تغيراتٍ على خلايا مفردة في نفس الوقت أثناء تطورها بينما تستطيع كل خليةٍ أن تتشكل على حدى، وفي الطريقة الجديدة فإننا قادرون على حل هذه المشكلة كوننا ندرس خلايا مفردة.

وقد قال الدكتور غايفن أيضاً: إن عملنا يقدم دليلاً من حيث المبدأ على أن درسة التغيرات فوق الجينية على الخلايا المفردة على نطاقٍ واسع، يقدم دليلاً على أن هذه الدراسات يمكن تحقيقها لتساهم في فهمٍ أفضل للتغيرات فوق الجينية التي تقود التطور الجنيني. وتطبيق هذه الطريقة(طريقة الدراسة على الخلية المفردة) في ما يخص التغيرات فوق الجينية يذهب أبعد من الأبحاث البيولوجية الأساسية. وبذلك، فالتحليلات السريرية(المرضية أو الخاصة بالمريض) المستقبلية يمكن أن تتضمن تحليلاً للتغيرات فوق الجينية للخلايا السرطانية المفردة مما يؤمن معالجةً مناسبةً تماماً لجينات المريض، فضلاً عن المساعدة في حل مشاكل العقم وذلك من خلال فهم الطريقة التي تؤثر بها الأخطاء المرتبطة بالتغيرات فوق الجينية بتقنيات الإخصاب المساعد.

وأخيراً نذكر ما قاله البروفسر وولف ريك: إن هذه الطريقة الجديدة والمثيرة قد أعطتنا تصوراً أفضل عن دور التغيرات فوق الجينية في الخلايا الجنينة الجذعية(غير المتمايزة أي التي لم تتخص من ناحية الوظيفة والشكل) وهذا قد يشير إلى المرونة التي تتمتع للتطور على أنواعٍ مختلفةٍ من الخلايا.

البروفسر ريك هو مؤسس Wellcome Trust Sanger Institute Single Cell Genomics Centre وقد قامت هذه المؤسسة مع معهد بابرهام بتطوير الطريقة التي تحدث عنها المقال.

الحاشية:

*الحمض النووي: المقصود به الحمض النووي منقوص الأوكسجين وهذا اسمٌ تقني لذلك سنستعمل الاسم المختصر وهو الحمض النووي.

** نقصد برسم الخريطة الجينية تحديد تتالي النكليوتيدات في الحمض النووي

المصادر:

Color Atlas of Genetics، 3th edition، Eberhard Passarge

هنا