الكيمياء والصيدلة > كيمياء

الحب والخيانة في جزيء واحد "الأوكسيتوسين"

قد يكون الأوكسيتوسين من أكثر الجزيئات المعروفة وخاصةً في العلاج الكيميائي الذي يُطبّق في حالة الرُّهاب الإجتماعي مثلاً، وأكثر ما يُعرف به الأوكسيتوسين أنَّه مصدرٌ للحب والرخاء وتبادل الثقة.

وبالتأكيد قد سبق لك وسمعت كلَّ ما يُقال عن هذا الهرمون السحري وربما قرأت آلاف المقالات عنه، والتي يكمن مغزاها بأنَّ هذا الجُزيء (جزيء الثقة) هو الأكثر تميُّزاً في العالم وهو المحطة الوحيدة للحصول على الحب والسعادة، كل ما عليك فعله لفهم هذه الأقاويل والمقالات هو القيام بعناق شخصٍ ما مثلاً حتى يفيض دماغك بالمشاعر الجنونية التي تجعلك تشعر وكأنك مخدر أو مسحور ومفتون، وكل تلك المشاعر تعود لهرمون وحيد هو الأوكسيتوسين.

ولكنَّ الأوكسيتوسين ليس مركباً جذاباً وشفافاً لهذه الدرجة كما قيل عنه، نعم هو مركبٌ مرتبط بمشاعر إيجابية عديدة مثل الكرم، الرغبة والثقة، لكنَّه يمتلك جانباً سلبياً أيضاً، فمن الممكن أن يعزّز مشاعر مثل الحسد والشماتة وربما يعزز التشتت عوضاً عن التعاون في الفريق.

وبحسب دراسة جديدة نُشرت في مجلة PNAS "فإنَّ استنشاق الأوكسيتوسين كمادة علاجية مثلاً ممكن أن يؤدي إلى سلوك سلبي بالرغم من أنَّه يُستخدم على أساس محفز إيجابي لعملٍ ما"

في جامعة أمستردام قام العالمان Shaul Shalvia وCarsten De Dreub باختبارٍ تجريبي على شكل لعبة لمعرفة تأثير الأوكسيتوسين، لقد سُمِحَ للمشاركين بهذه اللعبة بالكذب لصالح فريق أو مجموعة معينة، وقبل البدأ بالاختبار قام بعض المشاركين باستنشاق الأوكسيتوسين، بينما استنشق البعض الآخر من المشاركين عقاراً وهمياً على أنَّه الأوكسيتوسين أيضاً، ثمَّ بدؤوا اللعبة فتم اختيار ثلاثة مشاركين لا على التعيين للتخمين على قطعة نقدية تمَّ رميها أمامهم، بعد ذلك طُلِبَ منهم تقديم تقرير لمعرفة فيما إذا كانوا قد خمَّنوا بشكل صحيح أم خاطئ، وأخبروهم بأن فرصهم بربح الكثير من الأموال ستزداد إذا ما كان تخمنيهم صحيحاً وسيعود الربح لصالح الجميع.

فكانت النتيجة أنَّ جميع المشاركين قد غشوا في هذه اللعبة، وقالوا أنَّهم خمَّنوا النتيجة الحقيقية بالفعل، لكن المجموعة المشاركة التي تعرضت لجرعة الأوكسيتوسين كانت الأكثر كذباً وغشاً ولم تكن كذلك فقط بل وكانت أسرع من الآخرين بالغش والكذب في هذه اللعبة ومن دون تردد، وقالوا أنَّهم كانوا على صواب في التخمين لكن هذه النتيجة مستحيلة منطقياً وإحصائياً.

كُرّرت هذه التجربة مرة أخرى لكن هذه المرة أخبروا المشاركين أنَّ الربح سيعود عليهم شخصياً وليس على كل الفريق، فكانت النتيجة أنَّ المشاركين المستنشِقين للأوكسيتوسين توقفوا عن الكذب أكثر من المشاركين الباقين (على الرغم من أن الكذب مازال ظاهراً بين جميع المشاركين إلى حد ما)

إذاً عندما كانت مكاسب هذه اللعبة لا تعود بربحها على الجميع، لم يختلف سلوك المشاركين المستنشقين للأوكسيتوسين كثيراً عن الأخرين الذين تعرضوا لجرعة وهمية من هذه المادة.

هذه النتائج تشير إلى أن الأوكسيتوسين قد زاد من معدل الكذب عند المشاركين وذلك فقط عندما عاد الربح على المجموعة بأكملها، إذاً ليس مجرد هرمون لتعزيز الأخلاق كما كان يعتقد الجميع.

فقد ظهر من خلال هذا الاختبار أنَّ آثاره تختلف تبعاً للحالة، ففي حالة المجموعة تحول تأثير الأوكسيتوسين من هرمون لتعزيز الثقة والحب إلى هرمون يعزز السلوك أيَّاً كان نوعه إيجابي أم سلبي وذلك لأجل خدمة المجموعة بدلاً من التمسك بالقواعد الأخلاقية العامة، ويشير ذلك أيضاً إلى أنَّ الأوكسيتوسين ليس مجرد هرمون للحب أو هرمون لتحفيز الأخلاقيات التي تصل بصاحبها إلى القداسة كما يعتقد الجميع، بل إنه مادة كيميائية معقَّدة وكما يحمل على الإيجابية من خلال تحفيز الترابط والحب والثقة والتعاون، فهو يحمل أيضاً على السَّلبية ببعض السلوكيات السيئة مثل الكذب والتحيُّز لأجل المجموعة.

تُسلّط هذه النتائج الضوء على كيفية تحول السلوك الإيجابي المتمثّل بالتعاون إلى آخر سلبي متمثّل بخيانة الأمانة والتحول إلى فساد اجتماعي.

كما ذكرنا إذاً فالأوكسيتوسين ليس مجرد مادة محفّزة بل إنَّه مادة كيميائية معقدة ما زالت حتى الآن محيّرة للكثير من العلماء ومازالت قيد البحوث والتجارب، ويبقى أغلب ما توصل إليه العلماء بخصوصها هي فرضيات ممكن أن تكون صحيحة بمجملها وممكن أن لا تكون كذلك.

والمهم أيضاً أنَّ هذه "الضجة" التي حصلت حول هذه المادة "هرمون الحب والثقة" بكونها معقدة و محيّرة قد تسببت بالضرر للعوام وربما أصبحت مصدراً في بعض الأحيان لاستغلال الكثيرين، فقد أصبح هذا الهرمون بنظرهم بمثابة "مُصلِح اجتماعي" للعديد من المشاكل التي تمس أغلب العوام من الناس، فأحدهم أب لولد يعاني من التوحد، وآخر يعاني الإكتئاب، أو غيرها من الأمراض والمشاكل الإجتماعية للأطفال، وآخرون يعانون من اضطرابات نفسية كالرهاب الإجتماعي، كل هؤلاء ينتظرون من بحوث العلماء المستمرة حول تلك المادة البت بأنَّها تشكل العلاج الوحيد لكل تلك المشاكل والأمراض، ولكن المقلق أن بعض هؤلاء الناس لا يستطيعون الإنتظار، فيسارعون لاستخدامها ليُصبِحوا مصدر استغلال البعض تجارياً عن طريق بعض المواقع الإلكترونية التي تروّج لهذه المادة كمنتجٍ تجاري لعلاج هذه المشاكل الإجتماعية التي تحيط بهؤلاء الناس.

ويبدو ذلك مقلقاً بالنسبة للعلماء فلم يكن هناك دراسة محددة لاستخدام الأوكسيتوسين عند الأطفال الصغار مثلاً، ولا أحد يعرف عواقب استخدامه على المدى الطويل، ومع ذلك يُصِرُّ أغلبُ الناس على أنَّ الأوكسيتوسين هو مادة سحرية ومصدر للحب والثقة والأمانة و ..و.. وحتى كعلاجٍ لحالات التوحد لدى الأطفال، لكن في الواقع الأوكسيتوسين هو مادة كيميائية معقدة حيَّرت الكثير من العلماء وما يُشاع عنها بين الناس هي مجرد فرضيات لم يتم إثباتها بشكلٍ مطلقٍ حتى الآن.

المصادر: هنا

هنا

هنا

هنا