التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية

سبر أغوار الحضارة السورية ... أوغاريت كما لم تشاهدوها من قبل، الجزء الأول: كشف الستار عن المملكة المنسية

أعادت ضربة محراث مباركة عام 1929م إحياء أسرار وأخبار أعظم الحضارات وأغناها نفوذًا في شتى مجالات الحياة الإنسانية، إنها أوغاريت الحضارة المنسية التي أسهمت في إثراء وتقدم البشرية ونهضتها، ومن منبرنا هذا سنبحر سوية في عبق هذا التاريخ في أجزاء متتابعة لمقالنا عن ضلع من ضلوع الحضارة السورية أوغاريت ..

تتربع مملكة أوغاريت في مدينة اللاذقية وتحديدًا يُقارب امتدادها من جبل الساحل شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا ومن جبلة جنوبًا إلى جبل الأقرع شمالًا، لمساحة تقديرية تبلغ ألفي كيلو متر مربع.

أما اليوم فنجد بقايا مدينة أوغاريت في تل رأس شُمرا المكون من تجمع بقايا آثارية على بعد بضع مئات من الأمتار من البحر المتوسط وعلى بعد 10كم إلى الشمال من مدينة اللاذقية السورية في خليج محمي عُرف باسم (مينا البيضا) .

ولكل كلمة معنى وحملت أوغاريت معنى مستعار من السومرية وهو الحقل، ولكن المفردة السومرية التي تعني حقل هي ( A S A ) ) وهي ليست لها علاقة بلفظة الحقل، في حين أن الكلمة ( eqlu ) والتي تعني الحقل في الأكادية والمتطابقة من حيث اللفظ والمعنى مع العربية هي اللفظة المقصودة ، أما كلمة ( igaru) الأكادية فمن معانيها: الجدار أو السياج من المصــدر(igaru)، وتعنــي الأرض الخضراء أو المزرعة (السهل) من المصدر ( ugaru) أو ( igaru) ربما قُصد بالتسمية القلعة المحاطة بجدار والتي كانت تمثل أوغاريت القديمة؛ إذ كانت هذه القلعة تمثل مركز المدينة التي بُنيَت على سفحها مساكن عامة الناس من حرفيين وصغار التجار، في حين كانت القصور الملكية المحاطة بمنشآت دفاعية تقع في نهاية الطرف الشمالي الغربي من المدينة .

ولندخل في تفاصيل حكاية اكتشاف المملكة المنسية، ففي ربيع عام 1929م بدأت البعثة الفرنسية عملها في تل رأس شُمرا بعد اكتشافها لأثار موقع مينا البيضا المجاور له، وكان ذلك بناءً على رأي رينيه دوسو ( محافظ قسم الآثار الشرقية في متحف اللوفر آنذاك) بعد صدفة العثور عليها عندما اصطدام محراث فلاح سوري بمخلفات بنائية أثناء حراثته لأرضه وأُسندَت رئاسة البعثة الأثارية إلى كلود شيفر الذي حقق إنجازات علمية كبيرة بعد اكتشاف أجزاء هامة من المدينة وطابق بعد ذلك رأس شُمرا مع أوغاريت تلك المملكة السورية التي ورد ذكرها أولًا في الأطلس الجغرافي الذي جاءنا من أرشيف نصوص إيبلا في الألف الثالث ق.م. وتأكد دورها في الألف الثانية قبل الميلاد عن طريق إشارات كتابية جاءتنا من أرشيف ماري، وفي نصوص تل العمارنة في مصر وكذلك من بوغازكوي الحثية(21) قبل أن تعثر البعثة الفرنسية على أول رقيم طيني مكتوب بكتابات مسمارية كانت غير معروفة آنذاك عرفت بعد ذلك بالأبجدية الأوغاريتية.

وفي إلقاء نظرة أقرب على الشكل الأثري فنرى التل الأثري للمدينة القديمة ينتصب في أراضٍ زراعية على شكل مربع منحرف قليلًا يبلغ قطره من الشمال إلى الجنوب 600 مترًا ومن الشرق إلى الغرب 580 مترًا وتبلغ مساحته 360.000 مترًا مربعًا تقريبًا ومتوسط ارتفاعه عن سطح الأرض 17.50 مترًا، والتل مقسم إلى خمس طبقات من الأعلى، كل طبقة مقسمة إلى عدة أدوار على النحو الأتي:

الطبقة الخامسة: تضم بقايا العصر الحجري الحديث.

الطبقة الرابعة: تعود للنصف الأول من الألف الرابع.

الطبقة الثالثة: تبدأ من النصف الثاني من الألف الرابع إلى 2100 ق.م.

الطبقة الثانية: تبدأ من 2100-1600 ق.م.

الطبقة الأولى: تبدأ من 1600-1200 ق.م.

وبحسب تنقيبات البعثة الفرنسية يبدو أن هذا التل قد سُكن منذ العصر الحجري الحديث في الألف السابع ق.م. حتى عصر البرونز الحديث بعد أن دُمرت أوغاريت في بداية القرن الثاني عشر ق.م. إذ تحول إلى مراعٍ وحقول زراعية باستثناء أحد قطاعاته فبُنيَت عليه مستوطنة صغيرة تعود إلى العصر الفارسي في القرن الخامس ق.م التي كُشِف عنها ما بين عامي 1971-1973 .

وإن أول ما عُثر عليه من هذه المدينة هو مدفن منهوب الذي يقع بالقرب من خليج كان مجهولًا حتى ذلك الحين ألا وهو (مينا البيضا) المحدد إقامته في القرنين الرابع عشر والثالث عشر ق.م، هذا المرفأ أدّى دورًا هامًّا ورئيسًا في ازدهار المملكة، وقد عُرف باسم ماخادو ( Mahadau ) وأصبح لاحقًا يدير مؤسسة تجارية عالمية cosmopolotical (كوسموبوليتية )، وقد أسفرت حفريات المدينة العليا الواقعة على قمة التل ما بين عامي 1929-1938م عن اكتشاف عدد من الأحياء السكنية المنتشرة حول معبدي بعل وداجان وما يُعرَف ببيت رئيس الكهنة الذي يقع بينهما، وعُثِر فيه على عدد من الرُّقْم الطينية المكتوبة بالأوغاريتية والتي فُكَّت رموزها على يد كل من بوير( Bauer) ودورم (Dhorme) وفيردلـو ( Virdleaud) عام 1930م، وقد اتضح أنها تحوي على مواضيع دينية وأدبية أسطورية، وقد بينت لنا جوانب مهمة من المعتقدات الدينية والآداب الأوغاريتية التي أعطت قيمة كبيرة للحضارة السورية.

وقد تجلى الاعتراف بالطابع الثقافي الغني للحضارة الأوغاريتية باكتشاف تلك الأبجدية التي سرّعَت بحل رموز تلك اللغة، وبحلول عام 1931 م وبعد مرور ما يقارب ثلاثة أعوام على اكتشاف أول نص تبين بأنها تتألف من ثلاثين حرفًا.

وتعد الكتابة الأوغاريتية أول وأقدم أبجدية مسمارية ذات نظام قواعدي متكامل وتؤكد النقوش والكتابة المسمارية المكتشفة في موقع رأس شمرا ورأس ابن هانئ الأثريين على وجود مدارس لتعليم القراءة والكتابة بلغات عديدة، كالسومرية والأكادية بفرعها البابلي والقبرصية الميناوية والحثية المسمارية والحورية المسمارية وإعداد المترجمين، ودون شك تعلم الأمراء والملوك القراءة والكتابة باللغة الأوغاريتية، بدليل العثور على العديد من الرُقم الفخارية التي نُقش عليها أحرف الأبجدية الأوغاريتية، والتي كُتبت ثم مُسحت لأكثر من مرة فضلًا عن احتواء رقم التدريب على الكتابة على أختام ملكية تؤكد ذلك.

هذه كانت البداية وسنكمل الكشف عن الأبعاد الثقافية والاقتصادية والسياسية لمملكة أوغاريت في الأجزاء القادمة ...

المصادر:

شيفمان، إ. ش. (1988) ثقافة اوغاريت ، ترجمة حسان اسحق. ط1. دمشق: الأبجدية للنشر.

سعادة، جبرائيل (1968) رأس شُمرا وآثار اوغاريت. بيروت: دار الفن.

المساهمة الفرنسية في دراسة الآثار السورية ، 1969-1989 ، دمشق ، 1989

البعثة الفرنسية المنقبة رأس شُمرة ( 1929-1979 ) ترجمة فهمي الدالاتي ، دمشق ، 1980.