الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الجزء الثاني: الحركة الإنسانية

تعرّفنا في الجزء الأول من هذه السلسة على مفهوم عصر النهضة وتأثيراته، ولمن فاته يمكنه مُتابعته من (هنا). توصّلنا إلى أنّ أحد أهم نتائج عصر النهضة هو ظهور تيّارين فلسفيين مُختلفي التَوجّه والآراء. اليوم سنستعرض أولهما والمعروف بإسم "الحركة الإنسانية".

تُعتبر "الحركة الإنسانية" واحدة من الحركات الفكرية التي أثّرت على الدين وقوّضته في مناحي الحياة والحُكم. وتتمثل بالتخلّص من آلية التفكير المنوطة بالعصور الوسطى، وتنادي بالعودة إلى دراسة العالم القديم لمعرفة رأيه بالكون والإنسان. بدأت هذه الحركة في منتصف القرن الرابع عشر، على يد لورانزو فالا، بيك دولا ميراندول، وبيترارك. يعتبر لورانزو أول من دشّن الدراسة الاِنتقادية في النُظم الدينية وأصولها في الكتاب المقدس. في حين أنَّ بيترارك كان له الدور الكبير في تجميع ودراسة المخطوطات والنصوص الكلاسيكية وخاصة كتابات شيشرون وليفي وفريجل، التي شكّلت حجراً أساسياً في مفاهيم فلاسفة الحركة الإنسانية.

بدأت الحركة الإنسانية في إيطاليا نظراً لكونِها مركزاً للكنيسة الكاثوليكية، ولاِهتمام المُدن الإيطالية بالتجارة، وظهور الطبقة البرجوازية التي اهتمت بتشجيع الحياة الثقافية. ومن ثمّ بدأت الحركة بالانتشار في مختلف مناطق أوربا. كانت حركة مُتميّزة لأنها كسرت تقاليد العصور الوسطى. كما استهدفت التخلص من قيود الكنيسة الكاثوليكية، وفساد رجال الدين وترك واجباتهم الدينيّة، وانهماكهم بالأمور الدنيوية عن طريق توسيع ممتلكات الكنيسة ونهب الأموال وعيشهم في ثراءٍ وترف.

اهتمَّ الكُتاب الإنسانيّون بالموضوعات الدنيويّة أو العلمانية، بدلاً من الموضوعات الدينية، وكان هذا التركيز على العلمانية نتيجة لوجود وجهة نظر ماديّة أكثر عن العالم. وخلافاً للعصور الوسطى كان الناس في عصر النهضة يهتمّون بالمال، والمِتع الدنيوية جميعها. مجَّد الكُتاب الإسانيون الفرد وآمنوا بأنه مِقياسٌ لكلِّ شيء وأنه محور الفكر الإنساني، ولديه إمكانيات غير محدودة.

امتدت هذه الحركة على يد أرازموس، حيث قال بضرورة أنْ يعتمد الإنسان على ذاته في دراسة الكتاب المُقدّس. فقام بترجمة الكتاب المقدس اليوناني سنة 1516م، وأصبح بميسور الإنسان العادي قراءته والتعامل معه دون وسيط. كان روّاد الحركة الإنسانيّة جميعاً يحترمون من الوجهة الدينية تعاليم الكنيسة، ولا يريدون قطع العلاقة معها ولكن تعاليمهم هزّت النِظام الفِكري الديني فقد طبّقوا على النّصوص الدينية القواعد النقدية ذاتها التي طبقوها على النصوص الدنيويّة وهو ما أعاد النّظر بمصادر الدين المسيحي. و قيامهم بهذا الجهد باسم الحقوق التي يخولها الفكر الانتقادي؛ قدّر لهم أنْ يتوسعوا في حرية النقد التي تُحرّر المؤمنين من السلطة التي وضعها اللاهوتيين في العصر الوسيط، هذه الدعوة للحرية الفكرية الدينية و التي تُشكل تهديداً لمكانة الـ"بابا" الذي كان يُمثل محور كل شيء في ذلك الوقت.

جدير بالذكر أن اختراع الطابعة كان له الأثر الكبير في هذه المرحلة من الحركة الإنسانية. فقد كانت معظم طاقة أرازموس الفكريّة تذهب باتجاه تأسيس مُجتمع دراسي ومنهاج تعليمي ثابت تقِفُ في مركزه كتاباتُه المطبوعة.

جاءت تسمية الحركة من اهتمامها بالإنسان والتُراث، ومُختلف العلوم والفُنون، و بالفرد وحريّته وتحريره من كل القيود، كما اهتمت بتنمية اللغات المحلية عِوضاً عن اللاتينية والّتي كان يُتقنها فقط رجالات السياسة و المثقفين و العلماء فعملت الحركة على ظهور اللغات الإيطالية والفرنسية والألمانية كلغات رسمية قومية لا يتقنها فقط البسطاء، و هذا كان لتقريب العلوم والفنون لكافة الشرائح والطبقات في المجتمع مهما كان مستواهم الثقافي وتحصيلهم العلمي. فاعتمدت الحركة الانسانية على نشر أفكارها بواسطة اللغات الوطنية، عوضاً عن اللاتينية القديمة. فانتشرت الكتب بالفرنسية والاسبانية والايطالية والالمانية. ففي فرنسا، ازداد نشر النصوص بالفرنسية خلال القرن السادس عشر، ليمثل 60 % من النصوص المطبوعة، مقابل 40 % بالنسبة للنصوص اللاتينية. وفي مجال التربية والتعليم، اهتم الإنسيون بالطرق الحديثة والحوار وانتقدوا الحفظ والعقوبة الجسدية.

كان لهذهِ الحركة أثراً كبيراً في التعليم، وأعرب الإنسانيون عن اعتقادهم بأن التعليم يحفّز القوى الإبداعية للفرد. وأيّدوا دراسة النحو والشِّعر والتاريخ، فضلاً عن الرياضيّات والفلك والموسيقى. كما توسّع الكُتاب الإنسانيون في فهم الطبيعة البشريّة من خلال دراسة الكُتاب الكلاسيكيين أمثال أفلاطون وأرسطو، واعتقدوا بأن الكُتاب الكلاسيكيون القُداماء من روما واليونان بإمكانهم تدريس أفكار أصيلة عن الحياة، والحب، والجمال.

يقول جيري بروتون:

"يكمن نجاح الحركة الإنسانية في زعمها بتقديم أمرين لأتباعها:

الأول هو أنها عززت الاعتقاد القائل بأن التفوق في الكلاسيكيات يجعلك إنسانًا أفضل وأكثر على التفكير في المشكلات المعنوية والأخلاقية التي كان يواجهها الفرد فيما يتعلق بعالمه الاجتماعي.

الثاني هو أنها أقنعت الطلاب والموظفين بأن دراسة النصوص الكلاسيكية قيقدم المهارات العملية المطلوبة للمهن المستقبلية، مثل السفير أو المحامي، في إطار طبقات من الإدارة البيروقراطية، التي بدأت في الظهور في أوروبا خلال القرن الخامس عشر."

من روّاد هذه الحركة (جون ويكليف الذي دعا لاعتماد الكتاب المقدس في فهم الدين ورفض واسطة الكنيسة وعارض دورها الدنيوي، جون كوليت في بريطانيا، لوفيفر ديتابل في فرنسا).


المراجع التي تم الاستناد عليها في إعداد المقال:

1- نور الدين حاطوم، تاريخ عصر النهضة الأوربية،(بيروت: دار الفكر، 1985).

2- جان توشار،موسوعة تاريخ الافكار السياسية،ترجمة ناجي الدراوشة،(دمشق:دار التكوين،الطبعة الأولى،2010).

3- عصر النهضة، جيري بروتون، ترجمة إبراهيم البيلي محروس(مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة)