الفنون البصرية > فن وتراث

"عَرِيفَةُ" جنةِ الحضارةِ الإسّلاميةِ في غِرناطة ... حدائق جنة العريف تحكي عشق الأندلسيين للجمال

يَسحرُ عينيّ جمالُها، تهيم روحي بين ثنايا ألوانها وأزقتها، وردة تفوح من حناياها روائح الطيب الأندلسي العريق، لا أتحدث هنا عن حسناء عادية، إنها سيدة الحسان في إقليم العشق،ساحرة الجمال، توقعك في حبها من النظرة الأولى كما حصل لي، في فئ ظلها الوارف ضمتني، ومحبتها أرهفت شِعري وإحساسي وإحساس شعراء الروضيات والزهريات الذين سبقوني في أرض الأندلس ،لا أرى فيها إلا إمرأة تتسابق على ثوبها الأقحوانة والجورية والتوليب والقرنفل في عرض بديع لحضرة الطبيعة في شبه الجزيرة الايبيرية، هناك في غرناطة البهية، حيث تقع هذه الحسناء التي بُحت لها بعشقي وحبي، أسمحوا لي هنا أن أخبركم – يا سادة – أنني لم أخرج عن الدقة العلمية في هذا الوصف فأنا أصف لكم حبيبة أندلسية من عصر العشق العذري، العصر الوسيط، إنها عريفة غرناطة، "جنة العريف"، والتي تقع بين أمها في "حي البيازين" وأبيها في "قصر الحمراء" فلا يسع الباحث إلا أن يطلب يدها من هذه العائلة الغرناطية العريقة والتي ورثت منها جمالا وبهاء لا يقارن، هل تريدون أن تعرفوا أكتر عن حبيبتي؟ إليكم مقالا عنها:

المقال:

أطبق المسلمون سيطرتهم الكاملة على إقليم شبه الجزيرة الأيبيرية في القرن السابع الميلادي وسموها "الأندلس" نسبة لقبائل الوندال أصحاب الأرض، هذا الأقليم الذي يشكل بلديّ إسبانيا والبرتغال في يومنا هذا، بقيت راية الحضارة الإسلامية ترفرف فوق أرض لم تعرف الكثير من التفاصيل قبل أن يطأها الأمازيغ والعرب ثمانية قرون حصل فيها من التقدم العلمي والحضاري ما لا يتسع للمؤرخين تصنيفه في كتاب واحد، ما الذي دهى قاطني هذه الأرض من الوندال والعرب والأمازيغ والبشكنج والقوط، من مسلمين ويهود ومسيحين، ثمانية قرون فقط ! لتترك كل هذه العمارة المميزة ، والتي أصبحت أبرز قبلة سياحية في العالم، ودونًا عن جميع الأقاليم الإسبانية ،فإن إقليم الأندلس الجنوبي يحج له ألاف السواح سنوياً لرؤية أثر بعد عين جمع بين "جودة القطعة وجمال الصنعة"، إنها قصور وحدائق الأندلس.

من بين ما لفت انتباهي خلال إعدادي للبحث هو اطلاعي على جغرافية غرناطة، هي مدينة تقع ضمن مجموعة من الجبال العالية والتلال، وأحياؤها جُعلت في أدنى الأودية، ليس ذلك عبثيا أبداً، إذ لم يكن يخلو بيت أندلسي من حديقة وبها نوافير، فتموضع البيوت في أسفل الوادي يجعل الماء النازل من الجبال ضمن ممرات تم تصميمها مسبقا لأجل هذا الغرض، ما هي إلا مزود مائي كبير لتزيين جنة تلفها تلك الجبال الشاهقة، وهو ما دل على إبداع الأندلسيين واعتنائهم بالحدائق وخصوصا الغرناطيين، فلم يكن يشغل بالهم إلا جمال الطبيعة ومنظرها الخلاب.

وفي خضم حديثنا عن الحدائق في عالم المسلمين القدماء، يمكننا أن نرى في شتى الأقاليم التي انضوت تحت الحضارة الإسلامية عالماً خاصاً من الإبداع، مستمد من نصوص دينية مقدسة في وصف الجنة في العالم الآخر، فنجد ضمن أدبيات المسلمين عموماً وفي المخيلة المجتمعية شكلا باهيا لأرض يكسوها العشب وتتسلق النباتات فيها على حجر رقيق ،تحفها الأزهار من كل جانب وصوب، ويتناغم الماء مع مشهد الطبيعة مضفياً على النفس رفاهة ومنظراً بهياً يطيب للعينين لقاؤه، بحيث تكون جنة وأنهار وطيور وفاكهة وورود وظلال، لقد ساعد مناخ شبه الجزيرة الأيبيرية بشكل أو بآخر على تطور ما يعرف باسم "علم البستنة" مما سهل تطبيق هذا الوصف عملياً في حدائقهم، وأفلح هنا أهل هذه البلاد في استغلاله في بناء الحدائق، ولعل أبهى ما صورته عقلية الأندلسيين كانت جنة العريف.

ذكر المؤرخون هنا حدائق كثيرة ازدهرت في فترات مختلفة من عصر دولة الاندلس، في طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة وسرقسطة، ولم تكن الحدائق – كما يشير الدكتور سليم الحسني من جامعة مانشستر – فقط من أجل التأمل والتفكير بعيدا عن ضوضاء الحياة، بل كان لكثير منها وظائف عملية كتوفير أطعمة للمطبخ كما كانت مصدر إلهام لظهور نوع من الشعر العربي عُرف بـ "الروضيات" أو شعر الروضة الذي يستحضر رياض الجنة والفردوس ضمن أبياته.

بنيت هذه الجنة على مرحلتين، المرحلة الأولى كانت زمن محمد الثالث من بني الأحمر، حيث بُني القصر والحدائق، وكان ذلك بين 1302 – 1309 م، أما المرحلة الثانية فكانت في عهد أبي الوليد إسماعيل بين عامي 1313 – 1324 حيث قام بتزيينها وإعادة تصميمها ما أضفى عليها طابعا مميزا.

حكمت عائلة بني الأحمر، أو بني نصر، غرناطة ردحا طويلا من الزمن، حيث امتدت إمارتهم ما بين 1232 – 1492، وكانت هذه العائلة آخر حاكم أندلسي في في ما تبقى من التراث الإسلامي هناك، إمتازت حقبتهم بصناعة الجَمَال دون مبالغة، فقد كانت غرناطة مركز صناعة القماش والسجاد والحلي والعطور، وكان لعائلة بني الأحمر شغف لا يوازيه نظير في حب الزخرفة والفن، فامتازت قصورهم بكم كبير من الإبداع، ونقشوا شعارهم المعروف في كل مكان "لا غالب إلا الله" ولم يتركوا شبرا من غرناطة دون تزيينه، لقد أدركوا حينها أن الفن هو صنعتهم الأولى، بالرغم من أن الوضع السياسي في الأندلس في ذلك الحين كان في انحدار رهيب حيث ضاعت كل الأراضي الأندلسية ولم يبق إلا غرناطة، وهنا يعزو المؤرخون سبب بقاء غرناطة إلى الفن والعمارة.

فبلد منتج لا يمكن أن يسقط أبدا، وكانت اتحاد الممالك الإسبانية ينظرون إلى غرناطة على أنها حاجة لا يمكن الاستغاء عنها، فهي إمارة النفيس والطيب، وإمارة الزخرفة والفن، وإمارة الصناعة والجمال، لا يمكن أن يسقطوها، مما مد في عمر غرناطة وأجل سقوطها الحتمي.

بزغت شمس جديدة على غرناطة سنة 1492، إذ لم يعد المسلمون هم من يحكم هذه البلاد، وبعد مئة سنة سيُطرد الأندلسيون أهلُ الأرض من أرضهم، وسيحرمون من هذه الجنات والحدائق والقصور إلى الأبد، لكن الحكومة الجديدة لم تدمر هذه الأثار والكنوز، إذ تم تعيين حرّاس لحدائق جنة العريف يعملون على حراستها وتحسينها وفريق آخر من عمال البستنة مهمتهم ضمان استمرارية الحياة الطبيعية، وفي عام 1631 أعطيت ملكية حدائق جنة العريف لعائلة من سكان غرناطة وتدعى عائلة فينيغاس، واستمرت هذه العائلة مالكة للحدائق حتى عام 1921 وبعد معركة طويلة مع القضاء الإسباني أٌعيدت ملكية الحديقة إلى الحكومة الإسبانية.

ويأتي أصل كلمة عريف من اللغة العربية، إذ تشير هذه الكلمة إلى الحدائق أو الجنان البهية المتموضعة على السفوح، كحال هذه الحدائق المميزة في غرناطة، ويمكن لقاطني حي البيازين أن يشاهد من مكان إقامته منظر أشجار النخل التي تسور جنة العريف، كما أن للشبابيك الشرقية والشمالية لقصر الحمراء إطلالة خاصة على جنة العريف.

بين الجبال الشاهقة تقع عروسنا، وعلى بعد رمية حجر من حي البيازين وأخرى من قصر الحمراء تقع هذه الجنة البسيطة، مكونة من مجموعة من الحدائق، وفيها قصر نفيس، بنيت لتكون مكانا للراحة والاستجمام، حيث يأتيها العشاق ويتبادلون الحب والمودة في أحضان الطبيعة، كما أن للموسيقيين رغبة في القدوم هنا، إذ يكون للعزف على وقع خرير الماء وزقزفة الشحرور نكهته الخاصة، وللشعراء ركن هنا، بحيث يأتون من أجل الإستلهام من جمال المنظر وحسن المشهد، وعلى هذا الوقع، نجد أن جنة العريف تقبع في ركن قاص وبعيد عن قلب مدينة غرناطة، حيث تختفي بين محيط من أشجار النخيل الشاهقة التي تؤمن لها ظلة كبيرة تحميها من الهواء العاتي القادم من جبال نيفادا كما تحميها من التخريب والتدمير، خصوصا وأن نباتها رقيق القوام، كما تجعلها في منئأى عن ضجيج المدينة وأحوالها، وبعيدة عن قصر السياسة والإدارة في الحمراء، هنا ترتاح النفوس وتصفو الأذهان.

نجت هذه الجنة برفقة قصر الحمراء من تغيرات الزمن، إذ لم تقم السلطات المتعاقبة في إسبانيا بتغيير أي شيء في ملامحها، إذ لا تزال تحتفظ بطابعها الأندلسي الفريد، من حيث الشكل والمواد والألوان وتصفيف النباتات والورود، حتى مع أكثر الحروب عتاوة مثل الحرب الأهلية الإسبانية والحربين العالميتين الأولى والثانية، فهذه الجنة بنيت وفق نظام هندسي، تسقي نفسها بنفسها من ثلج الجبال وماء الأمطار، ولا يتدخل الإنسان في حياتها، سوى قليل من البستانيين لتشذيب بعض العشب وتقطيع الشاذ من النباتات، بأعمال بستنة بسيطة ليس إلا.

وتنعكس العلاقة هنا بين الهندسة المعمارية والطبيعة، حيث الحدائق والمياه تسيطر على القصر وتحكمه، وتنتشر حوله أكشاك صغيرة للاستظلال والراحة، ووحدات صغيرة على شكل باحات جلوس من أجل الجلسات الجماعية، يحيط بكل ركن من هذه الأركان أشجار البقس، وينتشر في خضم هذا المشهد المتناهي في الدقة والروعة ورود القرنفل والمنثور وشجيرات مثمرة مختلفة، كما تصطف بشكل متناظر أشجار السرو والصفصاف، مشكلة منظرا بهياً عن جنة لطالما حلم بها المسلمون في أدبياتهم الدينية.

وتتموضع جنة العريف على شكل مدرجات، وتقسم إلى أربعة حدائق رئيسية، تم فصل كل حديقة بجدران سميكة، وكل حديقة مثمرة أخذت أسما عربيا بادئ الأمر، ما لبث الإسبان أن غيروها إلى ترجمة إسبانية:

Colorada الأحمر

Grande الكبير

Fuentepeñaحنجرة الربيع

Mercería الكمالية

ويوجد في أسفل الحديقة مرج لرعي الخيول الجميلة، كما لهذا المرج دور آخر متعلق برياضة الصيد.

وللحديقة عدة مداخل: الأول من ناحية قصر الحمراء، حيث يمثل مدخلا مباشرا من قصر الحمراء إلى الحديقة، أما المدخل الثاني فهو خاص بالمقيمين بجانب الحدائق، حيث يسمى مدخل الجناح " Pabellón de Entrada" أما المدخل الثالث فيطلق عليه مدخل بوابة المطارق أو " Postigo de los Carneros" وهو في أعلى الحديقة.

بقيت غرناطة وقصورها تستقبل السياح على مر السنين الطويلة، حتى أضيفت مؤخرا لتكون على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي مع قصر الحمراء وحي البيازين، وما بين القصر والحي حكاية طويلة عن جنة صنعها الأقدمون من البشر بأيديهم لتكون سلوى لهم وراحة لنفوسهم فأبدعوا في تصوير الحدائق وتصفيف الورود، وأنا أحاول ختم هذه المقال أستشعر أن أراوح الأندلسيين عادت لتكتب معي هذا الختام، ويحضرني عند مشهد ثلاثية غرناطة "الحي والقصر والحديقة" صيحة أندلسية ملخصة في خمسة أبيات من الشعر، لعلها تنال إعجابكم عن شعب غرناطي قديم عرف كيف يحب الفن ويكرس حياته من أجله:

ايا فاضح البدر عند التمام، فهل لك واو وصاد ولام

وهلا عطفت على عاشق، يهيم بقاف وباء ولام

تملكت عقلي بثغر شنيب، فريقك عين وسين ولام

على عدد القطر حبي لكم، وعدد راء وميم ولام

وهل يجمع الدهر ما بيننا، فينضم شين وميم ولام

المصادر:

الحسني، سليم (2011) ألف اختراع واختراع: التراث الإسلامي في عالمنا. مانشستر: مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة.

هنا

هنا

هنا