الفنون البصرية > فن وتراث

كهف شوفّيه Chauvet دهشة الإنسان الأولى مجسّدة في لوحات

استخدم الإنسان الفن منذ الأزل ليعبّر عن مكنونات نفسه ويتفاعل مع محيطه، وقد اكتُشِفت أقدم التعبيرات الفنيّة التي عرفها البشر في كهف شوفّيه Chauvet الواقع على هضبة كلسيّة مطلّة على نهر الأرديش بالقرب من جسر بون دارك جنوب فرنسا، ويمتد على مساحة 8500 متر مربّع

تعود هذه الرسومات الرمزيّة إلی الحقبة الأورغناسية الممتدّة من عام 30000 لغاية 32000 قبل الميلاد، ممّا يجعلها شاهدة علی فن ما قبل التاريخ، ودليلاً على استخدام الكهوف في فترة ما قبل العصر الحجري القديم في الممارسات والطقوس الثقافية

تم الكشف حتّى الآن عن ما يزيد عن الألف لوحة مرسومة على جدران الكهف تتنوع ما بين المجسمات البشريّة والرسومات الحيوانيّة لعدّة أنواع من الحيوانات المفترسة كالماموث والدب والأسد ووحيد القرن والثور الأميركي، تتميّز هذه الرسومات بتقنيات عالية تنمّ عن الإبداع الفني لإنسان الحقبة الأورغناسية، وتعكس الدّقة في فهمه للظل والنور، وقدرته علی الجمع بين النقش والرسم، إضافة إلی البراعة العالية وتصوير الأبعاد الثلاثية للحركات المختلفة

كذلك تم اكتشاف العديد من البقايا التي تعود لحيوانات ما قبل التاريخ مثل دببة الكهوف حيث وُجِد العديد من جماجمها، وإحدى هذه الجماجم موضوعة بعناية على رف في مكان مرتفع، إضافة إلى مجموعة من آثار أقدام بشريّة

تم توثيق تاريخ هذه الاكتشافات عن طريق التحليل الكيميائي للكربون C14 (وهو تحليل كيميائي يستخدم لمعرفة عمر المواد العضوية بناء على عناصرها و هو يوثق حتى تاريخ 40000 سنة قبل الميلاد) حيث اتضح أن هذه الاكتشافات تعود إلى 30000 ـ 32000 سنة قبل الميلاد و أن جميع المواد و التصميمات وتقنيات الرسم تعود إلى ذلك الزمن، وجميعها خالية من أي تدخّل بشري بعد هذه الفترة، التعديل الوحيد الذي طرأ على الكهف هو تركيب أجزاء من الستانلس ستيل لتسهيل عملية الوصول إلى مناطق من الكهف دون إلحاق الضرر بالآثار الموجودة فيه، وقد تمّ حديثاً بعد اكتشافه

ومن الجدير بالذكر أن هذه الرسومات حافظت على حالتها الأصليّة ولم تتعرض لأيّ تخريب رغم الزمن الطويل الذي مرّ عليها لأن مدخل الكهف كان قد سدّ بصخرة كبيرة ناتجة عن انهيارٍ صخريّ يعود إلی ما يقارب 20 ألف سنة قبل الميلاد، وبقي علی هذه الحال حتّى تمّ اكتشافه بالصدفة في كانون الأول/ديسمبر عام 1994 من قبل ثلاثة مغامرين محليّين هم كريستيان هيلير و إليت برنل ديسشامبس وجان ماري شوفّيه "الذي سمّي الكهف على اسمه"، فحافظ على مناخ داخلي مستقر بعيداً عن التأثيرات البيئيّة الضارة

ولضمان بقاء البيئة الداخليّة للكهف بنفس حالتها الأولى اتُّبِعت سياسة وقائية صارمة في إجراءات الصيانة بحيث تتم في بيئة مطابقة تماماً لبيئته الأصلية حين اكتشافه، ومنذ أوائل عام 2013 بدأ تنفيذ خطّة عمل على مستوى دولي تهدف لحماية الكهف وكامل المنطقة المحيطة به والتأكّد من عدم القيام بأي تعديلات مستقبليّة عليها بسبب ضعف وحساسيّة اللوحات المُكتَشفة

وفي حزيران/يونيو 2014 مُنِح الكهف "مع جسر بون دارك" جائزة اليونسكو للتراث العالمي تأكيداً على مكانته وأهميته كصرح تاريخيّ

لكن الخبر المخيّب للآمال أن هذا الكهف لن يكون مفتوحاً للزوار وعامة الناس لأن التأثيرات الجويّة من رطوبة وحرارة وغيرها قد تحدث ضرراً شديداً على الرسومات واللوحات داخله، كما سيتم فرض إجراءات صارمة لدخول الخبراء والباحثين والقائمين على الصيانة في حالات الضرورة القصوى

لحل هذه المشكلة تقرّر بناء نسخة عن الكهف بنفس حجمه الحقيقي في بلدة فالون بون دارك جنوب فرنسا، حيث سيتم تصميمه بنفس منعطفات ومنحنيات الكهف الحقيقي لإعطاء الزوار شعور التجربة الحقيقية كأنهم في الكهف الأصلي، إضافة إلى توفير خدمة الإرشاد السياحي بشكل مجاني حتى عشر لغات مختلفة، كما سيُقام معرض دائم بمحاذاة الكهف وعلى طول المسافة التي يشغلها لإعطاء الزوّار صورة عن كثب عن عالم إنسان العصر الحجري القديم وأساطيره

من المتوقّع أن يتم افتتاح هذا المشروع الذي تبلغ تكلفته 55 مليون يورو أمام الزوّار في نيسان/أبريل عام 2015

عام 2010، أصبح هذا الاكتشاف موضوع فيلم وثائقي للمخرج الألماني وارنر هيرتزوغ يحمل اسم "كهف الأحلام المنسية Cave of Forgotten Dreams" بتقنية الأبعاد الثلاثية، حيث تمكّن المخرج من الحصول على إذن بدخول الكهف والتقاط الصور للرسومات على جدرانه.

المصادر: هنا

هنا