الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الجزء الأول: عصر النهضة وتأثيراته

لو استعرضنا التاريخ الإنساني -الأوروبي تحديداً- على هيئة نهر؛ سنميّز بشكلٍ قاطع في هذا النهر نقطة علّام غيّرت من مساره إلى عهدنا اليوم. من دون شك أن هذه النقطة المُتمثلة بعصر النهضة مليئة بنتاج الفكر الإنساني الخلّاق، المُبدع، القادر على الابتكار والقيادة في مختلف المجالات الحياتية. ومن هنا ظهر تباينٌ بين ضفتي هذا النهر الأول ينادي بالإنسانية ويرى بـ'النهضة' ولادة الإنسان من جديد وآخر يرى في الإصلاح الديني السبيل الأمثل في الوصول إلى السعادة الأبدية. سنتعرف على هاتين الحركتين الفلسفيتين في هذه السلسلة المكوّنة من ثلاثة أجزاء. وفي هذا الجزء سنستعرض مفهوم النهضة وكيفية ظهورها وتأثيرها.

تدل كلمة النهضة في الفرنسية (La Renaissance) على حركة البعث الجديد أو الإحياء. فكلمة النهضة تدل على تلك الروح التي ظهرت بالنسبة للثقافة والسياسة والفلسفة والأدب وجميع المعارف والفنون الكلاسيكية، وكذلك محاولة الاعتماد على النفس وتسليط الضوء على الأمور الدنيوية على عكس ما كان سائداً من الاهتمام المُبالغ فيه في الأمور الدينية. و هذا كله لتشجيع الإبداع و تنمية روح الخلق والابتكار. لكن البارز في الأمر أن مُصطلح "النهضة" لم يستخدم كعبارة تاريخية وصفية حتى مُنتصف القرن التاسع عشر على لسان المؤرخ الفرنسي جون ميشليه الذي يُعتبر أول مُفكّر عرّف عصر النهضة على أنّه فترة تاريخية حاسمة.

رغم وجود تباين طفيف في تسمية فترة زمنية محددة تنضوي تحت عصر النهضة، إلّا أنّه يمكن اعتماده تاريخياً من النصف الأول من القرن الرابع عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر. حيث كانت الإمارات الإيطالية على وجه الخصوص رائدة أوروبا في هذا العصر، سواء لكونها مركز الامبراطورية الرومانية بما لها من أمجاد وأفكار كـ"روما"، أو لاستقطابها أبرز الفنانين والمفكرين والفلاسفة والعلماء كـ"فلورنسا".

ويعرّف عصر النهضة على أنّه انتقالٌ من العصور (الوسطى) للعصور الحديثة. شهد تفتُّحاً استثنائياً في العمارة والفن، بالإضافة إلى المفاهيم التي كانت سائدة وتغيّرت: مفهوم الكنيسة، الإقطاعية، السلطة، والعادات والتقاليد. وبنفس الوقت داخل الكنيسة كان هنالك حركة جديدة عُرفت بحركة الإصلاح الديني. ونشوء مفاهيم فلسفية تساهم في إعلاء شأن العقل والقدرات الإنسانية. كانت هذه المفاهيم تمضي جنباً إلى جنب مع اكتشافات كوبرنيكوس وجاليليو وغيرهم، حيث ساهمت بشكلٍ أو بآخر بظهور الحركة الإنسانية. لذلك يعتبر عصر النهضة بتحولاته؛ حركة شملت التغير في كل شيء مع وجود مقاومة من المفاهيم القديمة المُتجذّرة.

إن هذا الاتجاه نحو التجديد والتغيير لم ينجح بكافة الأمور مباشرة، ولكنه ضرب في أساس تلك المفاهيم حيث انهارت فيما بعد وتغيّرت، ولهذا يعد عصر النهضة من أكثر التحوّلات الجذرية تأثيراً على المدى القريب والبعيد.

و هناك عدة أسباب دعت لظهور هذه الحركة الإحيائية والنهضوية في أوروبا منها: احتكاك الشرق بالغرب، إيقاظ الآداب المحلية الخاصة كظهور المُفكّر الإيطالي دانتيالذي كتب بلغته الإيطالية عوضاً عن اللاتينية. وأدى اختراع الطباعة في نهايات القرن الخامس عشر سبب رئيسي في نمو هذه الحركة.

ومن أهم نتائج حركة النهضة :

• فصل الدين والعادات عن مجالات السياسة والفكر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي. و قد بدأ هذا مع عدد من المفكرين أولهم نيكولاس ميكافيللي.

• ساعدت على نمو الآداب القومية المحلية للدول الأوروبية.

• ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر وجون كالفن.

• زودت الثقافة الإنسانية بمفاهيم جديدة للحياة والعالم ودعت الناس للاهتمام بحياتهم الدنيوية وألّا يحتقروا مباهج الحياة .

• ساعدت على تشكيل روح جديدة تدعو إلى التجديد والابتكار في سائر المجالات السياسية والاقتصادية والأدبية والفنية وحتى الاجتماعية.

جدير بالذكر أنّ حركتي (الإصلاح الديني) و (الإنسانية) كانتا مُتلازمتين زمنياً إلى حدٍ ما. وهكذا نجد أنّ نِتاج عصر النهضة كان السبب في قلب أوروبا وتغيير وجهتها تماماً. وإنّ ما وصل إليه الفكر الإنساني اليوم يعد نتيجة وحصيلة للجهود المضنيه في عصر النهضة، حيث تمّت الاكتشافات الجغرافية والكيمائية والفيزيائية والرياضية. إضافة لإصدار الكُتب وتأسيس الملتقيات والجوائز الثقافية. إنّ كافة النظريات والاكتشافات التي تمّت في ذلك العصر تعتبر أساساً كافة العلوم والتطورات التي كانت بمثابة تحديث فقط لها فيما بعد، ومن هنا تبرز أهمية عصر النهضة كنقطة تحول أساسية في تاريخ البشرية.


المراجع:

1- محاضرات الاتجاهات الحديثة و المعاصرة للفكر السياسي،سمير إسماعيل، (دمشق:منشورات جامعة دمشق،2014).

2- بول هازار، أزمة الضمير الأوربي، ترجمة جودت عثمان ومحمد نجيب المستكاوي،(دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2004)

3- نور الدين حاطوم، تاريخ عصر النهضة الأوربية،(بيروت: دار الفكر، 1985).

4- جان توشار،موسوعة تاريخ الافكار السياسية،ترجمة ناجي الدراوشة،(دمشق:دار التكوين،الطبعة الأولى،2010).

5- الفكر السياسي الأوروبي،ميشال شيحة،(دمشق:منشورات جامعة دمشق،2010).

6-عصر النهضة، جيري بروتون، ترجمة إبراهيم البيلي محروس(مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة)