الفنون البصرية > فن وتراث

الأجساد الفردوسية

بدأت قصتنا عام 2008 عندما كان المؤرّخ الفنّي والكاتب والمصوّر Paul Koudounaris في رحلة استكشافيّة بإحدى قرى ألمانيا فاقترب منه أحد السكّان المحليّين وسأله: "هل أنت مهتم بزيارة كنيسة قديمة خَرِبة ومنسية في وسط الغابة، بداخلها هيكل عظمي مرصّع بالجواهر والذهب ويحمل بيده اليسرى كأساً من الدم كأنه يعرض عليك نخباً!؟"

فكان هذا السؤال مقدمّةً لرحلة مثيرة بين المدافن والجثث، سنتابعها معاً

كانت الكنيسة الصغيرة أطلالاً لكنها ما تزال تحتفظ بهيكلها ومذبحها وببعض المقاعد المحطّمة، وجد Koudounaris الهيكل العظمي واقفاً في ممرّ جانبي، يحدّق إليه بعينين كبيرتين من الزجاج الأحمر من وراء ألواحٍ ثبتت بالمسامير على باب حجرته، وكان مزيناً بأردية تليق بملك، ويحمل بيده قارورة زجاجية تحوي راسباً أحمر تبيّن لاحقاً أنه دم الميّت نفسه

تأثّر Koudounaris كثيراً وصدمه الجمال الصامت المميت الماثل أمامه، وقد وصف تجربته فيما بعد بأنها من أكثر الأشياء إثارة للخوف والفضول، فاستحوذ هذا الهيكل العظمي الفريد على اهتمامه وتابع البحث علّه يكشف سرّه

وبالفعل استطاع أن يجد في سرداب إحدى الكنائس الألمانيّة هيكلين آخرين مزيّنان بطريقة مشابهة، أدرك حينها أن هذه البقايا الغامضة تخبّئ أمراً أكبر وأكثر إذهالاً، فبدأ البحث بشكل جدّي وكان التفسير الأولي الذي وجده أن هذه الهياكل كانت محل تقديس عند الكاثوليك الذين عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فقد اعتبروا أنّها تجسّد نعيم الحياة الآخرة وبإمكانها حماية المؤمنين، بعض الهياكل ظلّت مخبأةً داخل كنائس محدّدة، بينما أتلف الزمن بعضها الآخر فاختفت إلى الأبد

أمّا تفاصيل الحكاية فكانت أكثر إثارة وتعقيداً، ففي الحادي والثلاثين من شهر مايو عام 1578، اكتشف فلاحو مزرعة عنبٍ في إيطاليا حجرةً تحت الأرض احتوت على عدد كبير من البقايا البشريّة، يُحتمَل أنها تعود للقرون الثلاثة التي تلت ظهور المسيحيّة، حيث تعرّض ما يقارب 500 إلى 750 ألف إنسان "معظمهم من المسيحييّن إضافة لبعض الوثنيّين واليهود" للاضطهاد والتعذيب حتّى الموت في السراديب الرومانيّة لأسباب دينيّة

إلا أن تلك السراديب لم تكن المثوى الأخير للمئات من الهياكل، إذ إن الكنيسة الكاثوليكية علمت سريعاً باكتشاف الفلاحين وحاولت الحصول عليها بما أن معظمها يعود للشهداء المسيحيين الأوائل

انتشر خبر هذه الأجساد المقدّسة وباتت كنوزاً مرغوبة من الجميع، فقد أرادت كل كنيسة كاثوليكية مهما صَغُرت أن تحصل على جسد واحد على الأقل، ورغبت بها العائلات الثرية لأجل ضمّها إلى كنائسها الصغيرة الخاصة، كما كانت النقابات والأخويّات أحياناً تجمع كل ما تملك من مال لتتبنى شهيداً وتحتفظ به كراعٍ لها، حتّى أن ألمانيا الجنوبية اعتبرها سلاحاً مفيداً في معركتها ضد البروتستانتيّة

وكان الحصول على أحد هذه الهياكل يتطلّب اتصالات شخصية مع روما، وبشكل خاص مع شخصٍ من الحرس البابوي، وما أن يوافق الفاتيكان على الطلب حتى يوصل السعاة "وهم غالباً رهبان متخصّصون في نقل الآثار" الهياكل العظمية من روما إلى المكان الذي سترقد فيه.

أرسل الفاتيكان آلاف الأجساد، رغم أنه يصعب تحديد كم منها كان كاملاً وكم كان مجرد عظمةٍ أو جمجمةٍ أو حتى ضلع، بحسب Koudounaris أُرسِل إلى ألمانيا والنمسا وسويسرا لوحدهم ما يزيد على ألفي هيكل عظمي كامل، لكن عملية التحقّق من هذه الهياكل فيما إذا كانت تنتمي لشهداء حقيقيين لم تكن واضحة، فإن وجد حرف "M" منقوشاً بجانب جثّة اعتُبِر اختصاراً لكلمة "Martyr" والتي تعني "شهيد" رغم أنه قد يرمز وبكل بساطة إلى اسم "ماركوس" الذي كان اسماً شائعاً للغاية في روما القديمة، وإن وجدت قارورة تحوي راسباً جافاً بجانب الجثة فإنه يُعتبر دم شهيد، رغم أنه كان من الشائع في روما ترك قارورة عطرٍ بجانب الموتى تماماً كما نترك اليوم زهوراً عند قبورهم.

رغم هذا التشكيك، كان للأجساد المقدّسة تأثير في نفوس المؤمنين، فقد مثّلت النعم الجليلة التي تنتظرهم في الحياة الآخرة، وكثيراً ما سُمّي أول طفل ولد بعد وصول الجسد تيمناً باسم القديس نفسه، وقد آمن الناس بأن أولئك القديسون يصنعون المعجزات والعجائب وبإمكانهم حمايتهم، وسجّلوا بعض الأعمال التي نُسِبت إليهم في كتب أو رسموها في لوحات مصغرة، لذا كان من المهم تزيينها بشكلٍ لائق قبل عرضها، وغالبا ما قامت الراهبات الموهوبات بهذه المهمّة، وأحياناً كانت تطول عملية التزيين حتى ثلاث سنوات بحسب حجم فريق العمل.

طوّر كل دير أساليبه الخاصة في تكفين العظام بالأقمشة الفاخرة وتزيينها بالذهب والجواهر، وكان معظمها من تبرّعات الأثرياء والنبلاء المحليّين، وكانت الراهبات ينسجن الشاش ويغلّفن به كل عظمة بدقة، وذلك لحمايتها من الغبار، ثم تثبّت الزينة عليه، وأحياناً كان النبلاء المحليون يتبرّعون بملابس تلبستها الراهبات للأجساد ويصنعن فيها فتحات تسمح للناس برؤية العظام أسفلها. وكذلك كان معظم الذهب والجواهر من التبرعات، حتّى أن بعض الراهبات خواتمهن الخاصة في أصابع الهيكل العظمي

لكن الأجساد الفردوسية بدأت تفقد بريقها مع اتّجاه العالم نحو العصر الحديث، حتّى أن فولتير اعتبرها انعكاساً لعصور البربريّة، وفي القرن الثامن عشر عزم إمبراطور النمسا جوزيف الثاني على القيام بإصلاحات فأصدر مرسوماً يقضي برمي كل الآثار غير الموثوقة والتي لا تحمل إثباتاً يؤكّد مصدرها، وهذا ما كانت تفتقر إليه الكثير من الأجساد المقدسة بعد أن جردت من مكانتها، نُزِعت من أماكنها وأُغلِق عليها في صناديق أو أقبية، أو سُرقت من أجل جواهرها.

لم تُفقد جميع الأجساد المقدسة خلال القرن الثامن عشر، إذ بقي بعضها سليماً ومعروضاً للجميع مثل الأجساد العشر المحفوظة في كاتدرائيّة Waldsassen في بافاريا الألمانيّة، وهي تحوي أكبر مجموعة من الأجساد موجودة حاليّاً، كما أن القدّيسة Munditia ما تزال تتربّع على عرشها الخمري في كنيسة القدّيس بطرس في ميونخ، ووجد Koudounaris جسداً داخل مخزنٍ بسويسرا، وآخر ملفوف بالملابس وموضوع داخل صندوق في كنيسة ألمانيّة ويبدو أنه لم يُلمس منذ مئتي عام.

بعد أن رأى وفحص ما يقارب المائتين والخمسين جسداً، ختم Koudounaris بالقول: "هذه الأجساد هي أفضل التحف الفنية التي صُنعت من عظام إنسان".

رغم أن العديد منها يعاني اليوم من العثّ الذي يحفر في عظامها، والغبار الذي يتجمع على أرديتها الحريرية المهترئة، إلا أنها مازالت تحتفظ بمكانتها كتحف فنيّة خالدة بغضّ النظر عن أصحابها والأدوار التي أدّوها كأجساد مقدّسة.

المصدر:

هنا