الفنون البصرية > فن وتراث

الآلهة بالألوان.

تتطلّب معرفةُ الآلهة اليونانية وكيف كانت تبدو، رحلةً مثيرةً تبدأ في القاعة الثامنة عشرة في المتحف البريطاني. تلك القاعة التي تتضمّن معرضاً مكرّساً لمنحوتات إليجن الرخامية المشهورة والتي تحتوي العديد من الميداليات الرائعة المنقولة من البارثينون في أثينا مابين عامي 1801 و 1805 من قِبل توماس بروس أو كما يُلقّب بالنبيل السابع المعظّم إلجين، والذي كان في يومٍ ما المبعوثَ البريطانيّ للقسطنطينية (استنبول حالياً) من عام 1799 ل1803 (عندما كانت اليونان تحت السيطرة العثمانية). وحتى ذلك الوقت، صَوّر البعضُ عملَ إلجين على أنه انتهاكٌ صارخٌ للتراث العظيم. إذ تحتوي قصيدة السيرة الذاتية للورد بارون "Childe Harold's Pilgrimage" توبيخٌ لاذعً إلى حد كبير لذلك الأمر.

كانت عبقريةُ الفنان والمعماري فيدياس وراءَ منحوتات البارثنيون. وتقول الأسطورة أنه وحده من بين البشر قد رأى الآلهة بشكلها الحقيقي. فعرض أعماله في البارثينون ليبيّنهم من خلالها. حيث تصوّر أجزاء الجملون الشرقي من المعبد والذي تتوضح فيه ولادة أثينا من رأس زيوس (والجملون: هو جدار مثلث الشكل متشكل من التقاء جزئي السطح المائل أو ذلك السطح الذي يشبه السطح القرميدي في زمننا هذا، يمكنك معرفة المزيد عنه إذا ما بحثت بمسمى: gable). وأما الجملون الغربي، فهنا تعرض المسابقة بين أثينا وبوسيدون حيث يتجلّى الصّراعُ بين الآلهة من أجل الفوز بلقب المدينة الراعية. (وبما أننا نطلق على المدينة أسم "أثينا" فمن الواضح أنها هي من فازت). فكان من الواضح أنّ النيّة كانت في جعل التماثيل البطولية مرأيّةً للجميع حتى من مسافة بعيدة.

كان هذا منذ ملايين السنين، أما الآن، تضررت الكثير من المنحوتات لدرجةٍ يصعُب التعرف عليها، كما أن جزءاً كبيراً من هذا الإرث قد فُقد. وهذا ما تطلّب من علماء الآثار أن يولوا هذا الجانب مستوىً متقدماً من الدراسة والبحث لمعرفة هويّة الكثير من الشخصيّات.

فالعنصرُ العرضي (رأس الحصان و اتكاء الشباب) يُعدّ تسجيلاً في غاية الروعة والوضوح. ولكن بالنسبة للجزء الأكبر من نحتٍ مميزٍ يُطلَق عليه جمودَ بيتهوفين: فكلّ ما هو موجود في الأقمشة، الحجم، الكتلة، وحتى الطاقة الهائلة، تتجلى في الحجر. وعلى الرغم من أننا نادراً ما نفكر بها، ولكن هذه الأجزاء مجرّدة بشكلٍ واضح. لذا هي "حديثة" جوهرياً. وبالنسبة لمعظمنا ذلك ليس بمشكلة. نحن معاصرون أيضاً ونحبُّ آثارنا بهذه الطريقة.

ولكن نستطيع التخمين أن فيدياس كان لينكسر قلبه لرؤية آثاره المقدسة مسحوبةً بعيداً عن مَوطِنها الأصلي بمثل هذه الحالة المهشمة. وبالتدقيق أكثر، سيبدو له الحجر العاري "تالفاً"، حيث يمكن للمرء أن يلاحظ تجريدَ التمثال من لونه وهو ما يبدو تشوّهاً واضحاً.

ما هي التماثيل الملونة؟

خلال العصور القديمة، كانت ترمز إلى الرخام الأبيض. ولكن لم يكن الحال هكذا عند الجميع، حيث كان لليونانيين رأياً مختلفاً، إذ زينوا آلهتهم بألوانَ مفعمة وصوّروها بذلك الشكل المتألّق والمرصّع بأبهى الألوان. فالمعابد التي كانت تحتويهم كانت مزخرفةً وذات تلوين متناسق. وقد جرّد الوقت والطقس هذا التدرّج الإستثنائي للألوان.

وأنّ الرخام الأبيض هو القاعدة الأساسية منذ عصر النهضة، وعندما بدأت أولى الآثار الكلاسيكية بالخروج من الأرض. فيقال أنّ منحوتة الكاهن الطروادي وولديه يصارعون ثعباناً من قِبل آلهة البحر (بوسيدون) (تم اكتشافها سنة 1506 في روما وهي الآن في المتحف الفيكتوري) واحدةٌ من أعظم الإكتشافات الأخيرة. وأخذ الفنانين في القرن ال16 الأحجار العارية بقيمتها الظاهرية. فمايكل أنجلو وغيرهم كانوا يحتذون بها، فكانوا يعتقدون بأنه الجمالية القديمة، وذلك بترك رخام معظم التماثيل بلونها الطبيعي. وبالتالي ساعدوا ليمهدوا الطريق للكلاسيكيّة الحديثة (أسلوب الزنبقة البيضاء والذي لا يزال إلى هذا اليوم يُعتبر نموذجاً للفنّ اليوناني).

في أوائل القرن التاسع عشر كان التنقيبُ المنهجيُّ للمواقع اليونانية والرومانية القديمة يجلبُ أعداداً كبيرةً من التماثيل، وكان هناك علماءُ آثارٍ يوثّقون ألوانَ التماثيل المختلفة. وبعضُ هذه الآثار وألوانُها لا تزال مرئيةً للعين المجردة على الرغم من أنّ معظم الألوان الباقية قد تلاشت أو اختفت بشكل كامل عندما تعرّضت التماثيل إلى الهواء بشكل متكرّر.كما أنّ البعض من بودرة الطلاء أُزيل من قِبل المرمّمين الذي كان فعلُهم (ذو النية الحسنة) معادلٌ للتخريب.

وفي القرن الثامن عشر اختار عالم الآثار الرائد والمؤرخ الفني Johann Joachim Winckelman عرضَ القوام الحجريّ العاري بصورته النقية الطبيعية –الأفلاطونية إن صحّ التعبير - فمن وجهة نظره أنّ هذه الألوان تساهم بالجانب الجمالي، ولكن في الوقت عينه لابد أن لا يكون جمالُ التصميم نابعاً من اللون وحده فقط.

لم يعد عالم الآثار الألماني Vinzenz Brinkmann يعمل في مجال التنقيب فقد أصبح خارج الخدمة مؤخراً، لطالما كان مسلحاً بالمصابيح عالية القوة والضوء فوق البنفسجي والكميرات وقوالب الجص وبودرة المعادن الثمينة، فقد أمضى آخرَ ربعِ قرنٍ محاولاً إنعاشَ مجد الطاووس اليوناني. ومما ساهم في الرّفع من قيمة دراساته العلمية إنشاؤه نسخاً من الجصّ أو الرخام بالحجم الطبيعي مطليةً باليد بنفس المعادن والأصباغ العضوية التي استخدمها القدماء: الأخضر من المرمر والأزرق من اللازَوَرْدِ (معدن أزرق) والأصفر والرّصاصي من مركّبات الزرنيخ والأحمر من الزّنجفر والأسود من إحراق العظام مخلوطةً بالكروم.

إصلاحاتُه التي استعادت الألوان بدقّتها ظهرت أوّلَ مرةٍ عام 2003 في متحف Glyptothek في ميونيخ. حيث عُرضت جنباً إلى جنب مع آثار تلك المجموعة الأسطوريّة، النّسخ المماثلة أذهلت وصدمت الذين جاؤوا لرؤيتها، كما لخصت مجلة تايم الإستجابة ب "المعرض يجبرك على أن تمنح النّحت القديم نظرة مختلفة".

وجّه Brinkmann أنظارَ بعض المصورين إلى مجموعة من نماذجه الرائعة، كـ Acropolis الملوّن ببراعة والمصمَّم بمظهرٍ غريب، راكعاً مع قوسٍ وسهم، إلهٌ يبتسم ابتسامةً أثرية. ولربما الذي يثير الذهول أكثر، تمثالٌ جذعيٌّ مذهَّب لمحاربٍ في درعه الذي يلتصق بالجسد وكأنه قميصٌ مُبللٌ رطب. قد يبدو قوام التصميم خاطئاً من منظور أسلوب عمارة الشمس المشبعة ولكن يبدو بحالةٍ ممتازة تحت سماء البحر المتوسط الحارقة.

وقدّم متحفُ Arthur M. Sackler في جامعة هارفرد عملياً – وذلك في الخريف الماضي - كاملَ آثار Brinkmann بمعرضٍ دُعي بِـ "الآلهة بالألوان: منحوتاتٌ ملوّنة لآثار كلاسيكية" وقد ظهرت النّسخ المماثلة المحدّدة أيضاً في وقتٍ سابق في عرضٍ كان بعنوان "لون الحياة" في Getty Villa في ماليبو والتي شملت استعراضاً متعددَ الألوان من الآثار إلى الحاضر. ومن أبرز التماثيل كانت مجموعة تماثيل غريكو لEpimetheus وPandora والمصنوعة من الخشب المطلي، وتماثيل المرأة اليهودية غريبة الأطوار لCharles-Henri-Joseph Cordier في الجزائر 1862 وهي صورةٌ لوجهٍ نصفيةٌ في جذعٍ من الرّخام و الذّهب وطلاء المعدن والجمشت (حجر كريم).

على الرغم من ذلك لم تكن أيٌّ من هذه اللوحات من هذه الأعمال لافتةً للإنتباه كتلك التي أعاد استنساخها Brinkmann. فعملُه الفنّي "Lion From Loutraki" والذي يعرض جلداً لحيوانٍ بنّيٍّ مصفرٍّ وعُرفٍ أزرقَ وأسنانٍ بيضاءَ وعلاماتِ وجهٍ حمراءَ. ورامي السّهم الغريب الذي يلبس سترةً لونُها يشبه الخردل المزركش مع تداخلاتٍ من الأحمرَ والأزرق والأخضر الفاقع. تحتها كان يرتدي سروالاً مطابقاً مع التصميم المتعرج والذي ينتشر ويضيق كأنّه مطبوعاً على ليكرا. وعلى عكس الألوان المقترحة سابقاً والتي كانت معظمها متضاربة فيما بينها.

واحدةٌ من أعمال Brinkmann نشرتها صحيفةٌ ألمانية. تصوّر على شاهدةِ قبرِ رجلٍ متوفى يدعى Aristion ،محاربٌ ذو لحية غزيرة وتظهر عليه معالم البسالة والقوة في أبهى صورها، واقفاً وجلدُه مسفوعٌ وقدماه عاريتان وخوذتُه زرقاء. الأزرق يفتح للأصفر والدروع الصفراء على الخيتون الأبيض الرقيق الذي يظهر مع ثنياتٍ ناعمة وحوافَّ صدفيةٍ وحدودٍ ورقيةٍ خضراء. ولوّنت ابتسامةُ شفتيه باللون القرمزي.

يدلّنا Brinkmann على نحتٍ لمشهدٍ من معركة موجودة في معبد Aphaia (حوالي 490 قبل الميلاد) في جزيرة ايجينا والذي يُعد واحداً من المعالم السياحية الرئيسية في Glyptothek. خلافاً لمعظم المحاربين الآخرين في المشهد، فالرّامي بكاملِ لباسِه، قبّعتُه المحشوّة وزيُّه المنقوشُ بالألوان الزاهية تشير إلى أنه شرقيّ. وهذه وغيرها تشير إلى هويته.

أفضل معداته بعيدة كلَّ البعد عن التكنولوجيا الحديثة، فما هي إلا مجرد مصباحُ يد. وتحته إضاءةٌ عاليُة الدّقة (تقنية الضوء التي تقع على على سطح الجسم من زاوية منخفضة جداً) تمكّنه من رؤية شقوقٍ خفيفة يستحيل أن تراها بالعين المجردة. وعلى سترة الرامي تتكشف بقعةٌ من الضّوء على الحدود الهندسية التي صممها Brinkmann بالألوان. وفي مكان آخر من السترة يوجد وحشٌ ضئيلٌ جداً بالكاد يصل طوله إلى بوصة واحدة، يقف مع جسدٍ لِقِطَّةٍ في غابةٍ مكلّلة بمجموعة من الأجنحة الملكية (غريفين).

كان سطحُ النحت مغطىً - في يوم من الأيام - بالألوان الرائعة ولكنّ الزمن محاها. كما أن الأكسدةَ والغبارَ حجب تلك و أخفى أي آثارٍ للصباغ. فاستخدام التحاليل الفيزيائية والكيميائية ساعدت Brinkmann على تركيب الألوان الأصلية. واستخدم الأشعة فوق البنفسجية على الرّامي كاشفاً ما يُسمّى ب"الظلال الملونة" من الأصباغ التي كان يرتديها منذ فترةٍ طويلة. فبعض الأصباغ تزول بسرعة أكبر من غيرها، حيث يتعرض الحجر الكامن إلى الرياح والطقس بمعدلاتٍ مختلفة وبالتالي يضعف أيضاً بمعدلات مختلفة. كما أنّ إضاءةَ السطح تبدو فارغة حتى في نمط التداخل بدقة المقاييس، وفقط عشُّ الطيور الذي عاش خلف النحت شهد دقة التفاصيل.

ويستخدم Brinkmann أساليبَ جديدةً تحسّن بشكلٍ كبيرٍ من نسخ النحت. ففي ما مضى كانت العملية تحتاج إلى عملية تعبئةِ التمثال في الجص لخلق القالب. ولكنّ التطبيقَ المباشرَ للجصّ يمكن أن يُلحق الضّرر لآثار اللون الثمينة. أما الآن فإن المسح الضوئي الثلاثي الأبعاد يمكن أن يُنتِح نسخةً طبقَ الأصل دون المساس بالأصل. وبعد ذلك يُطلى جصّ Caligula ( إمبراطور روما) حيث يكون نسخةً عن النحت الأصلي بألوانه الحقيقية . فشعر الإمبراطور نُحِت بتجعيدٍ وثيق وملوّن بالبني شوكولا على أسود مع ألوانٍ أفتحَ (تشير إلى الحركة والملمس). كما كانت قَزحيّة لون العيون للإمبراطور أحلكَ من الحافة. فمثل هذه التفاصيل الواقعيّة هي بعيدةٌ كلّ البعد عن الرامي باريس.

في حوالي ال490 قبل الميلاد عندما نُحِت التمثال، زُيّن بالألوان ولكن مع مرور الوقت عَلّم الفنانون أنفسَهم تعزيزَ آثارِ الضوء والظل كما يفعل هو مع Caligula. كما اكتشف دليلاً على التظليل على تابوت الكسندر الذي تم إنشاؤه 320 قبل الميلاد، وهو مدعاةٌ كبيرةٌ للإثارة.

إنّ المحاولات السابقة للتلوين اعتمدت في معظمها على الخيال والذوق الشخصي. فلوحة السير لورانسPheidias and the Frieze of the Parthenon (1868-69) أظهرت الفنان اليوناني بريكليس وغيرها من الأثينيون متميزة بجولةٍ خاصة من منحوتات البارثينون. فتمثال جون جيبسون ذو الحجم الطبيعي Tinted Venus له شعرٌ عسليٌّ وشفاهٌ بلون الورد.

في الولايات المتحدة الأمريكية، كان التعبير عن الحبّ المقدّس والدنيويّ مجازياً في وصف "الإفريز" وهو شريطٌ أفقيٌّ مزخرفٌ بطول الجزء العلوي من حائط الغرفة ل C. Paul Jennewein وهو أكثر سخاءً في استخدام الألوان، حيث جاء حجمُه بحجم الملك. والذي كُشِف النّقاب عنه في متحف فيلادلفيا للفنون 1933 .

ويبقى السؤال: إلى أيّ مدىً ممكنٌ للعلماء استنساخَ فنّ عصورٍ قد اختفت؟ لا يوجد إجابة قاطعة.

المصدر:

هنا