البيولوجيا والتطوّر > أسئلة شائعة عن نظرية التطور

الجزء الخامس - تعقيد البروتينات، كيف نكتب قصيدة لشيكسبير بالاعتماد على أحرف عشوائية؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

عندما يتم الحديث عن نظرية التطور فإن أحد الاسئلة التي تتكرر على مسامعنا كثيراً هو عن تعقيد البروتينات ووظائفها، فكيف نشأت هذه الجزيئات الحيوية الذكية بالتدريج؟ تابعوا معنا هذه السلسلة من المقالات علها تساعد في وضع الأمور في نصابها عن طريق تقديم الأجوبة العلمية على هذا السؤال وغيره من أهم الاسئلة الشائعة عن نظرية التطور، وللإطلاع على المقالات السابقة من هذه السلسلة من هنا و هنا و هنا و هنا

أليس مستحيلاً من الناحية الاحتمالية الرياضية أن ينشأ البروتين، ناهيكم عن كائنٍ حي؟

تعتبر البروتينات من أكثر الجزيئات الحيوية تعقيداً على الإطلاق، فهي تتكون من سلاسل من الحموض الأمينية قابلة للانطواء على نفسها بشكل بنيةٍ ثلاثية الأبعاد وأي خطأ في بناء تلك السلاسل سوف ينتج عنه فشلٌ في الانطواء وبالتالي فشل البروتينات في تأدية وظائفها.

يطرح المشككون في التطور السؤال على النحو التالي: إذا قمنا برمي عشرات الحروف على الأرض فهل يمكن لها أن تشكّل قصيدة لشيكسبير بالصدفة؟ أو إذا أعطينا قرداً عدداً من الأحرف وتركناه يلهو بها فهل يمكن له أن يشكّلها لتصبح قصيدة؟

للوهلة الاولى يبدو طرح السؤال مقنعاً، فكيف تشكلت البروتينات المعقدة بعملياتٍ طبيعية تلقائية وبدون تصميمٍ مباشر بيدٍ تعرف ما تفعله؟

والجواب يكم في تصحيح فهمنا لعملية الانتقاء الطبيعي: فسيكون هذا الأمر مستحيلاً لو كان التطور عشوائياً، لكنه ليس كذلك!

الطفرات هي العشوائية وليس الانتقاء الطبيعي، وهنا مصدر سوء الفهم، حيث أن الطفرة (العشوائية) ستعطي صفات قد تكون جيدة أو سيئة (من ناحية فائدة الكائن بالحياة والتكاثر والتكيف مع البيئة)، ولكن الطفرات ليست كلّ شيء، فالانتخاب الطبيعي أبعد ما يكون عن العشوائية، فهو أشبه بفلترٍ ذكي تمرّ من خلاله الطفرات المفيدة ويوقف مرور الطفرات الضارة، حيث تستمر الكائنات ذات الصفات الجيدة وتتكاثر وتنتشر مورثاتها الحاملة للطفرات المفيدة على عكس السيئة التي تندثر.

لنوضح أكثر باستخدام مثال القرد الذي يكتب قصيدة شكسبير ولتفرض أن عليه أن يكتب مقطعاً يبدأ بجملة To be or not to be، ولنتخيل أن الفلتر في هذه التجربة هو حساس لتطابق الحروف مع الجملة مثلما فلتر الانتقاء الطبيعي حساسٌ للتكيف مع البيئة: يعمل الفلتر على تمرير الاجابات الصحيحة فقط. يكتب القرد حروفاً عشوائية: يوقف الفلتر المحاولات الفاشلة ولا يمررها فإن كتب القرد أحرف UCPONX وكلها تفشل في الاستمرار لأنها لا تتوائم مع الخصائص التي يمررها الفلتر، وبعد عدة محاولات يكتب T، هنا حصلت الطفرة "العشوائية " التي سيتم انتقاؤها وحفظها وبالتالي تمريرها، والآن ينتقل إلى الحرف الثاني ويمر بعدة محاولاتٍ أيضاُ إلى أن يحصل على الحرف O، ثم B وهكذا..

بما أن الانتقاء الطبيعي يحفظ الأكثر تلاؤماً مع البيئة فإنه -وفق مثالنا- سيحفظ الحرف الأول T وبالتالي فإن القرد عندما يخطىء في الحرف الثاني لن يعيد الكرة من البداية بل سيقوم بالبناء على الصفة المفيدة التي يمتلكها أصلاً، وهكذا يكتب الحرف الثاني فالثالث وهكذا، وإذا لم يكن الشرح واضحاً فتخيل أنك تلعب إحدى ألعاب الحاسوب مع إمكانية أن تضغط Save Game في كلّ مرة تنجح فيها لكي لا تضطر إلى إعادة اللعبة من أول مرحلة في كل مرة وإنما تبدأ من حيث انتهيت وهذا ما يقوم به الانتقاء الطبيعي! يقوم بـ save للصفات الأكثر ملاءمةً للبيئة إن صح التعبير (الأمثلة المطروحة للتوضيح فقط). وقد قام ريتشارد هاريسون بتصميم برنامجٍ بسيط لاختبار هذه التجربة والذي يقوم بكتابةٍ أحرف عشوائية لكنه يحتفظ بالكلمات المناسبة بنفس الطريقة، فقد تبين بالتجربة أن هذا البرنامج قادرٌ على كتابة مسرحية هاملت في غضون 90 ثانية فقط!

الآن تخيل بأن تجربة القرود نفسها تتم على ملايين القرود وملايين الاحتمالات وتستمر إلى ملايين السنين! من الواضح أنه لولا آلية الإنتقاء تلك لكان احتمال كتابة المسرحية فعلاً إحتمالاً ضئيلاً، أما ومع عملية الانتقاء الذكي فسوف تنتج تلك القرود قصائد لا نهائية ومتنوعة مثل تنوع الطبيعة حولنا والذي أنتجه الانتقاء الطبيعي.

أما بالنسبة لما يجري على أرض الواقع، فاللغة التي تـُكتـَب بها الطفرات ليست بهذا التعقيد، فهي مكونة من أربعة أحرفٍ فقط (الأحماض النووية للمورثات)، كل ثلاثة أحرف منها تكوّد حمضاً أمينياً واحداً، وكل تغييرٍ في ترتيب الأحماض الأمينية يمكن له أن ينتج وظيفةً جديدة سواء كانت مفيدةً أو ضارة، والذي يحدث هو تراكمُ تدريجي لوظائف البروتينات الموجودة مسبقاً، فهي لم تكن بهذا التعقيد منذ البداية بل وصلت لهذه المراحل من طول السلاسل الأمينية عبر تراكمات الانتقاء على مدى ملايين السنين.

عائلة البروتينات البشرية cyclophilin

واليوم، أصبح بإمكاننا دراسة القرابات و"أشجار العائلة" ضمن مجموعات البروتينات الموجودة لدى عدة أنواع من الكائنات!! وهذا بحد ذاته دليلٌ رائع على نظرية التطور، فكما يتم تصنيف الكائنات الحية ضمن أشجار عائلة عن طريق معرفة قراباتها والأسلاف المشتركة بينها فإنّ البروتينات أيضاً تمتلك أصولاً مشتركة حيث تتراكم ضمنها التغييرات البسيطة التي تسبب تغيراً في وظائفها ويمكن تتبع تلك التغيرات حتى الوصول إلى السلف البروتيني المشترك ومعرفة الأحماض الأمينية التي تغيرت عن طريق الطفرات وتسببت بظهور البروتينات الجديدة ذات الوظائف المفيدة والجديدة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا