كتاب > روايات ومقالات

غريب ألبير كامو وفلسفته الوجودية

استمع على ساوندكلاود 🎧

لعلّه من غيرِ المعقولِ أنْ نأتيَ على ذكرِ الفلسفة "الوجوديّة" دونَ أنْ نُعرّج الخُطى على إحدى الشّخصيّات الّتي دعتْ إليها ونطقتْ بها.

"ألبير كامو" هو كاتبٌ وفيلسوفٌ وجوديّ، وبالرّغمِ من عدمِ محبتِه للفظةِ "فيلسوف" لكنْ لا يسعُنا القولَ بأنّه غيرَ ذلك، فهو لطالما كانَ ابن الوجوديّة البارّ، الدّاعي للتمرّد، المتحدّث عن اللامبالاة والهازئ من الحياة.

وعندما نذكر اسمَ هذا الرّوائيّ المبدع فلن تتهافتَ إلى أذهاننا سوى إحدى أهمّ أعمالِه الرّوائيّة وهي "الغريب ".

هناك البعضُ القائلُ بأنّ بطلَ الرّوايةِ هو ليس إلّا "كامو" بذاته، بتمرّده وتجرّده، بعدم انتمائه وعدم اكتراثه، فإلى أيّ حدّ يمكنُ اعتبارَ هذا القول صحيحاً؟

كانَ "كامو" عندما شرعَ في كتابةِ روايته يبلغ من العمرِ الخامسة والعشرين سنة، وبلغَ السّابعة والعشرين سنة حين أتمّها، وقد قارب الثّامنة والعشرين عندما أصدرها، لكنّه إلى حين ذلك لمْ يكنْ يدري أنّه أخرجَ لهذا الوجود تحفةً أدبيةً متقنةَ الصنعِ بعمومِها وتفاصيلِها، تحفةً تحوّلت إلى مادة تُدرس في أعرق جامعات العالم.

عندَ المرورِ بهذه الحقائق الأوّليّة عن الرّواية وقبل التّعمّق بما تحتويه أسطرها، تتبادر إلى أذهاننا عدّة إشارات استفهامٍ تنتظر الحصول على الإجابة، كالتّساؤل عن السّبب وراء تسميتها بــ "الغريب" وما الدّلالة الّتي تحملها هذه التّسمية؟ هل تشير إلى دلالة نفسيّة، أم اجتماعيّة، أم كلاهما؟ ولعلّ هذا التّساؤل هو ما يثيرنا أكثر لحمل الرّواية ومشاركة "مورسول" رحلته الوجوديّة تلك.

يمكننا إيجاز القصّة برمّتها كالتّالي:

وفاةُ الوالدة، مغامرةٌ عاطفيّة مع الحبيبة، قتلُ رجلٍ عربيّ، السّجن، المحاكمة من ثمّ الإعدام.

لكنْ جميع ما ذُكر يشكّل لذاتِه مفارقةً تختلف عن غيرها، تضعنا في هذا العالم اللاعقلانيّ الّذي يحياه الغريب، وتدفعنا لدراسة وتحليل هذه الشّخصيّة المركّبة التي قلّ ما نراها من حولنا.

لقد افتتح لنا هذا الغريب قصّته بمقدّمة مدهشةٍ وملفتةٍ للنّظر" توفيتْ والدتي اليوم، وربّما الأمس.. لستُ أدري"، هذه المقدّمة الّتي تضعنا على الفورِ أمامَ حالةِ "مورسول" العاطفيّة، فهو لا يشعر بالحزن إزاء موت والدته، ولا يتذكّر متى حدَثَ ذلك تحديداً، وعندما تلقّى الخبرَ لم يُجبْ أكثر من كلمةِ "نعم" فهو لم يجدْ الحاجة المُلِحّة لقول أكثرَ من ذلك.

كانَ "مورسول" يعلم أنّه في خضمّ هذه الشعائر الجّنائزيّة عليه أن يلعبَ دورَ الابن الثكلان، لكنّه لم يكن يشعر بأيّ شيء أمامَ جثّة والدته الهامدة المتقدّمة في العمر، كان يدخّن ويحتسي القهوة بهدوء عندما قطعتْ عليه جميع هذه المشاعر رغبةٌ جامحةٌ بلقاءِ "ماري" صديقته وقضاءِ ليلةٍ جميلةٍ معها، وعليه فقد ذهب مع "ماري" لمشاهدةِ فيلمٍ سينمائيّ ومن ثمّ اصطحبها لبيته.

وعند هذه النّقطة نتوقّف لنطرحَ التّساؤلات التّالية:

كيف كانت تبدو هذه العلاقة العاطفيّة من وجهة نظرِ كلّ من "مورسول" و"ماري"؟

وهل أزاحت لنا السّتار عن جانبٍ آخر من شخصيّته الغريبة؟

يمكننا أنّ نلحظَ بوضوح أنّ جُلّ اهتمام "مورسول" ينصبّ على جسدِ "ماري" فحسب، وأنّ قلّة اهتمامه بشخصيّتها يدلّنا على الرابطة المادية الّتي تربطه بها، وهذه المشاعر العاطفيّة والرّومانسيّة برمّتها تكادُ تكون ثانوية لديه فيقول:

"وفي المساءِ، حضرتْ "ماري" عندي، وسألتني عمّا إذا كنتُ أريد أنْ أتزوّجها، فقلتُ لها أنّ هذا شيء لا يهم وأنّنا نستطيعُ أنْ نتزوّج إذا شاءتْ، وأرادت أن تعرفَ ما إذا كنتُ أحبُها فقلت لها أنّ هذا شيء لا يهم وأنا لا أحبّها".

يكمل "مورسول" سرد قصّته بدعوةٍ من جارِه للذّهاب هو و "ماري" في رحلةٍ إلى الشّاطئ وقضاءِ نهارٍ جميل، وردّ هذه الدّعوة بالإيجاب، لأنه لم يكنْ يعلم حينها أنّ هذه الرّحلة ستكون آخرَ رحلاته، ستشكّل حادثة تقلب حياته رأساً على عقب، تتلخّص بإطلاق 5 رصاصاتٍ على رجلٍ عربيّ لأنّ خنجرَ هذا العربيّ قد لمع تحت أشعّةِ الشّمسِ الحارقة وأَثَارَ ذلك حفيظة "مورسول".

يقول البعض أنّه ليس هناك أيّ منطقٍ يكمنُ في هذا الفعل، إنّه فعل لاعقلانيّ لا يحوي أيّ سبب حقيقيّ يدفع المرء لارتكابِ هكذا جريمة، ولكن صديقنا "مورسول" لديه مبرّر على ذلك فيقول:

"حاجاتي الجّسمانيّة تعرقل كثيراً مشاعري". لهذا السّبب لم يبدِ أيّ مشاعرَ حزنٍ على وفاة والدته لأنّه كان متعباً من السّفر، وهذا ما حدث معه تماماً أثناء إقدامه على قتل الرّجل العربيّ لأنّه كان تحت أشعّة الشّمس الّلاهبة الّتي بدأتْ تحرقه وتؤلم رأسه وتثير غيظه.

ماذا الآن؟ هل سيقتنع أحد بمبرره هذا؟ حتى محاميه هل سيدافع عنه بضراوة؟ على ما يبدو أنّ حتّى المحامي يشعرُ بالاشمئزاز والغرابة منه، لعدمَ اكتراثِه أو إبداءِ النّدم إزاءَ جريمتِه. أمّا هو، لا يزال يحاول التّأقلم مع حياةِ السّجنِ، والتّكيّف مع عزلته عن الطّبيعة والنّساء وسجائره ورتابة أيّامه.

وفي قاعة المحكمة في اليوم التّالي سرعانَ ما تحوّل موضوعُ المحاكمةِ من جريمةِ قتلٍ إلى إجراءِ نقاشٍ طويلٍ حولَ شخصيّة "مورسول" الغريبة وطباعه وتصرّفاته، وبَدَا وكأنّه متّهمٌ لعدم إظهارِ حزنه على وفاةِ والدته وليس حولَ ارتكابه جريمةِ قتلٍ، وفي نهايةِ الأمرِ تمّ الجّزم بأنّ "مورسول" بشخصيّته غير المبالية والمستهترة يشكّل خطراً على المجتمع وأنّه لابدّ من إعدامه. يعودُ الغريبُ إلى سجنه محاولاً التّصالح مع وضعه، مبدياً صعوبةً في تقبّل حتميّة مصيره، ولكنّ شعوره بأنّه مصيبٌ في اعتقاداته حول هذا العالم المادي الخالي من أيّ معنى، وأنّ الوجود الإنساني أيضاً خالي من أيّ معنى، هو ما يجعله سعيداً راضياً وهانئ البال، مقبلاً نحو مصيره بقناعةٍ.

جسّدتْ هذه الشّخصيّة إحدى شخصيّات القرن العشرين الّتي تعيش نوعاً من الاغتراب في عالمٍ تسوده عبثيّة مطلقة، اغترابٌ اجتماعي ّ ونفسيّ وسياسيّ بل حتّى دينيّ، يشعر من خلالها الفرد بعدم انتمائه لمجتمعه وما يسوده من قيم ومبادئ فيفضّل الانكفاء والانعزال كالغريب وربّما هذا ما دفع البريطانيين لتسمية هذه الرّواية الّتي تمّ نشرها لأوّل مرّةٍ هناك ب "اللامنتمي" كعنوانٍ أقرب لهذه الشّخصيّة الهامشيّة باردة المشاعر.

معلومات الكتاب:

الكاتب: ألبير كامو

ترجمة: عايدة مطرجي إدريس

عدد الصفحات: 150

دار النشر: دار الآداب بيروت