العمارة والتشييد > من أعلام العمارة

Le Corbusier

شارل إدوار جانيريه (Charles-Edouard Jeanneret) أو كما يعرف بـ لوكوربوزييه Le Corbusier ولد في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1887 ميلادية في مدينة لا شو دو فون (La Chaux-de-Fonds) في سويسرا، في عمر الثالثة عشر ترك شارل المدرسة ليتعلم حرفة والده في صناعه وزخرفة الساعات في مدرسة الفنون المحلية، حيث ضمت المدرسة أقساماً أخرى خاصة بالرسم وتاريخ الفنون، تحت إشراف المعلم تشارلز لوبلاتونييه (Charles L'Eplattenier) والذي رأى بالشاب شارل الموهبة والفن التي تؤهله لأن يكون مهندساً معمارياً، تماشياً مع هذه النصيحة والتوجيه قام لوكوربوزييه بعدد من الرحلات التعليمية في أنحاء أوروبا مابين عامي 1907-19011 ميلادية والتي أكتشف من خلالها العديد من الأنماط المعمارية القائمة في هذه المدن منها المكونات الأساسية للعمارة اليونانية –المتمثلة في معبد البارثينون- وبمباني مدينة البندقية على يدي المعمار أندريا بالاديو (Andrea Palladio) بالإضافة للعديد من المباني والأنماط المعمارية المتبعة في جنوب القارة الأوروبية، كما قام بالألتحاق بالعمل تحت إشراف العديد من المهندسين في أنحاء أوروبا منها المهندس أوغست بيريه (Auguste Perret) في فرنسا وهو خبير في الخرسانة المسلحة عام 1907 ميلادية، والمهندس جوزيف هوفمان (Josef Hoffmann) في فيينا، والمهندس بيتر بيرنز (Peter Behrens) في برلين حيث زامل كلاً من ميس فان دير روه وولتر جروبيوس أعضاء الجمعية الألمانية للحرفيين (Deutscher Werkbund).

عاد شارل إلى مدينته لاشو دو فون ليدرس ويستكمل دراساته المعمارية خلال الحرب العالمية الأولى، ونتج عن ذلك قيامه بتصميم منزل الدومينو عامي 1914-1915 ميلادية المعتمد على فكرة المسقط المفتوح المكون من بلاطات خرسانية مسلحة محمولة على مجموعة من الأعمدة الخرسانية الرفيعة والمغطاة بجدران غير حاملة ودرج ليوصل جميع الطوابق، هذا التصميم أصبح كقالب اعتمده على مد العقد اللاحق.

في عام 1917 ميلادية أستقر شارل في باريس حيث إلتقى بأميدي أوزانفان (Amédée Ozenfant) رسام وكاتب ومعلم فرنسي الذي عرفه على مجموعة عُرفت بطلائع الفن (avant-garde art) المشهوره بابتكار الأفكار الجديدة وقاما بتبني وإنشاء الحركة الفنية المعروفة بالنقاء أو الصفاء (Purism) والتي دعت لرفض التكعيبية في العمارة والعودة إلى تأكيد صفاء الشكل الهندسي من أية عناصر غريبة.

في عام1920 ميلادية تبنى شارل إسم لوكوربوزييه كإسم له بناءاً على فكرة أن الشخص يستطيع أن يعيد تقديم نفسه مرة أخرى بشكل جديد مختاراً من إسم جده ليكون إسماً جديداً له.

قام كلاً من لوكوربوزييه وأميدي أوزانفان بالإضافة لكلٍ من بول ديرمي (Paul Dermee) بمراجعه جذرية لـ (L'Esprit Nouveau) والتي أحتوت على أفكار جديدة بالعمارة والفنون التطبيقية، بما في ذلك المهندس المعماري البلجيكي هنري فان دي فيلد (Henri van de Velde) والتشيكي المؤثر أدولف لوس (Adolf Loos)، والتي مهدت الطريق لتصاميم حديثة خالية من الزخارف. وحثت مقالات لوكوربوزييه إلى تحوّل لمجتمع حضري مبني على الوظيفة، مشجعاً إستخدام العمارة الحديثة ومواد الكتلة الأصلية.

وفي عام 1923 ميلادية قدم لوكوربوزييه كتابه (Vers une architecture) الذي إحتوى على مجموعة من المقالات المنشورة سابقاً، كان له أثراً على عمارة الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف القرن الماضي عندما تأثر به عدد من المهندسين الأمريكان منهم لويس كان (Louis I Kahn)، كما قدم العديد من المؤلفات أكثرها شهرة: تخيط المدن(Urbanism) نشر عام 1925 ميلادية، مدينة الغد (The City of Tomorrow) عام 1929 ميلادية، عندما كانت الكاتدرائات بيضاء (When Cathedrals Were White) عام 1937 ميلادية، ميثاق أثينا (La Charte d'Athenes) عام 1943 ميلادية، ثلاث مستوطنات البشرية (Les Trois Etablissements Humains) عام 1495 وكتاب موديولار (Modular) عام 1948.

وبعد العمل أربع سنوات في التصميم وعدم بناء أي شي من هذه التصاميم قام لوكوربوزييه بالعمل على إستيديو في باريس متعاونا مع قريبه بيير جانيري (Pierre Jeanneret)، حيث كان تركيزه منحصراً على تصميم منازل وفلل سكنية صغيرة مخصصة لعائلة واحدة ومتميزة بالشكل الذي حافظ فيه على البساطة في الكتلة والواجهات. أحد أشهر هذه الأمثلة ما عرف بمنزل ستروهان (Citrohan House) المبنى ببساطة بأعمدة خرسانية رشيقه وفراغ داخي مفتوح و جدران خارجية غير حمّالة لتعطي الامكانية القصوى من الإستفادة من الواجهات كنوافذ تزيد من الإنفتاح بين الفراغات الداخلية والخارجية، بالإضافة لحديقة سطح تستخدم كشرفة. تبع هذا التصميم مجموعة متميزة من التصاميم كمنزل أوزينفانت (Ozenfant) عام 1922، منزل راؤول لا روش (Raoul La Roche) عام 1923 ميلادية، منزل ميشيل ستين (Michael Stein) عام 1927 بالإضافة لكل من فيلا ليبتشي (Lipchitz)، مايسون كوك(Maison Cook)، مايسون بلانيكس(Maison Planeix)، وتحفته الفنية منزل سوفوي في بويسي (Savoye House) عام 1930 ميلادية.

وبالرغم من أهتمامه بتصميم المباني بشكل مخصص قدم لوكوربوزييه مجموعة كبيرة من الأفكار لتطوير تخطيط المدن العمراني كنظرائه من المهندسين المعاصرين له في تلك الفترة لمواجهة أزمة السكن المتزايدة في المدن حيث يرى في منزل إميوبليس (Immeubles Villas) التي طرحها عام 1922 ميلادية الحل لتأمين سكن جيد للطبقات المتوسطة.

و كمخطط متحمس قدم لوكوربوزييه تصاميم لمدن متكاملة على غرار مدينة العصر (Contemporary City) عام 1922 ميلادية معدة لثلاثة ملايين نسمة موزعه في ناطحات سحاب صليبة المسقط مكونة من ستون طابقا موزعة في وسط المدينة سابقاً في هذه مدرسة شيكاغو التي طرحت الفكرة في الخمسينات من ذات القرن. إستمر لوكوربوزييه بالعمل على التخطيط العمراني حيث قام بطرح خطة لإزالة وسط مدينة باريس، شمالي نهر السين والإستعاضة عنه كذلك بناطحات سحاب سكنية مكونة من ستين طابقاً متعامدة مع بعضها البعض بشبكة من الشوارع المتقاطعة متغاضياً عن تخطيط المدينة الحالي، ومتمسكاً بأفكاره المعتمدة على البناء الحديث والخالي من عناصر زخرفيه والمعتمدة على الوظيفية. وفي الثلاثينيات من القرن الماضي وعلى النهج نفسه قدم لوكوربوزييه عدداً من التصاميم الأخرى أشهرها المدينة الشعاعية (La Ville Radieuse) عام 1935 ميلادية تبعها تخطيط عام لمدينة بوينيس آيرس عام 1938 ميلادية ومدينة الجزائر عام 1942 ميلادية.

وعلى نفس النهج تابع لوكوربوزييه في تبنيه الأفكار الحديثة المتجددة في تصميم عدداً من المباني العامة كبمنى الأمم المتحدة في جنيف عام 1927 ميلادية، تبع ذلك إنتخابه أميناً فرنسياً في المؤتمر العالمي للعمارة الحديثة (CIAM)، تبع ذلك فوزه في مسابقة تصميم مبنى للإتحاد السوفيتي في موسكو عام 1929 ميلادية ومبانٍ أخرى في فرنسا وسويسرا.

خلال الحرب تعاون لوكوربوزييه مع نظام فيتشي (Régime de Vichy) أو الحكومة الفرنسية آنذاك، في حين أنضم إبن عمه للمقاومة، وبالتالي إنتهت شراكتهما، قام لوكوربوزييه بإستثمال هذا الوقت في إبتداع نظام جديد يعرف بالموديولار (Modulor) وهو نظام تقدير المقاييس المعمارية بناءاً على المقياس الإنساني أو البشري كوحدة قياس أساسية، وقد سبق له أن إستخدم هذه النظام في منزل ستين في جارش (Stein Villa in Garches)، معتبراً من نظامه كإستمرارية للعمارة التقليدية الرومانية للمعمار الروماني فيتروفيوس (Vitruvius) مؤلف كتاب (De Architectura”"\الكتب العشرة في العمارة)، وطورها فناني عصر النهضة كليوناردو دافنشي و ليون باتيستا البرتي.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان على ثقة من أنه أصبح جاهزاً لوضع مخططات الاعمار في حيّز التنفيذ، قام لوركوربوزييه بالمشاركة في إعادة إعمار فرنسا التي مزقتها الحرب، حيث عمل على تصميم ناطحتي سحاب لمدينتين تدمروا بشدة في الحرب، حيث أعتمد بأحد الأبراج المطروحة بناء مكون من خمسة أدوار وظيفية تستطيع إيواء 30 ألف نسمة، ومن غير المستغرب; تم رفض التصاميم المقدمة من قبله، ولكن فيما بعد إنتشرت التصاميم لتلاقي سيطاً واسعاً في ظل النمط المعماري الحديث.

وعلى أي حال، تم تفويضه بتصميم مجمع سكني في مرسيليا عام 1946 ميلادية، حيث عمل على إستخدام الوحدة السكنية التي إستخدمها سابقاً في تصميم المدينة المشعة، تم بناء المجمع بين عامي 1947-1952 ميلادية حيث تم إستخدام البيتون الخام مكونة 337 شقة سكنية موزعة على إثني عشر طابقاً، كما ضم المبنى كلاً من محلات تجارية، مرافق طبية وتعليمية، فندق، مطعم وتراس يحتوي على مسبح ومضمار للجري.

بالإضافة لمرسليا، إستخدم لوكوربوزييه الطابع نفسه في أربعة مواقع أخرى، حيث سمي هذا النمط بالعمارة الوحشية وتبع هذه المدرسة العديد من المعماريين في وقت لاحق.

وفي الخمسينات من القرن الماضي قام لوكوربوزييه بالسفر للهند وعمل على تصميم مبنى البرلمان الهندي بالإضافة لعدة مبانٍ إدارية أخرى، مبنى للمحكمة، والجامعه في مدينة شانديغار، عاصمة ولاية بنجاب، وكالعادة إستخدم لوكوربوزييه الإسلوب الوحشي الذي الإتبعه في هذه الفترة بدون العودة للمواد المحلية أو إستخدام أي من العناصر الزخرفية.

وفي أواخر الخمسينات نال لوكوربوزييه الإعتراف الرسمي بكونه أحد الأيقونات المعمارية العالمية فضلاً عن كونه أحد طلائع المعماريين المبدعين في مجالهم، حيث حصل على كلٍ من وسام معهد فرانكلين بيرس براون بالإضافة للميدالية الذهبية من المعهد الأمريكي للمهندسين عام 1961 ميلادية.

وعمل بعدها على مجموعة من المشاريع المعمارية منها: المتحف الوطني للفنون الغربية بطوكيو، مركز أوليفيتي للحاسب في ميلان، قصر المؤتمرات في ستراسبورغ، ومركز كاربينتير للفنون البصرية في جامعه هارفارد.

في السابع والعشرين من شهر أب عام 1965 ميلادية غرق لوكوربوزييه بينما كان يسبح في البحر قبالة سواحل مدينة روكيوبرون جنوب شرق فرنسا.

تم تنظيم الجنازة في الأول من أيلول في باريس بحضور واسع من كافة الأوساط حيث نعاه كلٌ من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ليندون جونسون بقوله"تأثيره العالمي، وأعماله المتميزة بالجودة المستمرة، لمست من عدد قليل جداً في التاريخ".وأضاف الإتحاد السوفيتي قوله بأن العمارة الحديثة فقدت سيدها. وقامت وسائل الإعلام العالمية في تغطية الجنازة.

دفن لوكوربوزيه في مقبرة مدينة روكيوبرون جنوب شرق فرنسا لتنتهي معه حياة كان مِلؤها العمل الدؤوب للوصول لهوية جديدة ماتزال غير مقبولة حتى وقتنا الحاضر.

كما رأينا فإن حياة هذا المعماري كانت مليئة بالتحديات والعثرات، ولكن في النهاية تمكن لوكوربوزييه من صنع التاريخ وتصدير العديد من العلوم للأجيال اللاحقة التي كانت ولازالت تفيد منها الكثيرون في وقتنا الحالي وفي المستقبل. برأيكم ما هو أجمل مباني لوكوربوزييه؟ وماهي اكبر التحديات التوي واجهها؟


المصادر:

Le Corbusier: A Life - Nicholas Fox Weber

هنا