البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات

جينات بكتيرية في جينوم الإنسان... كيف وصلت إلينا؟

قبل أن نبدأ في هذا المقال دعونا نلقي الضوء على مصطلحَين اثنين:
• انتقال الجينات العمودي: أي انتقال الجينات من الآباء إلى الأبناء.
• انتقال الجينات الأفقي: أي انتقال للجينات بين الأنواع المختلفة (من فرد إلى فرد آخر).

يبدو، وعلى غير المتوقع، أنَّ جيناتنا لم تصل فقط عمودياً من خلال أسلافنا. حيث تم اكتساب بعض الجينات بشكل أفقي من مصادر غريبة، كالبكتيريا ووحيدات الخلية والفطور. لكن درجة اكتساب الحيوانات العليا لجينات من تلك الكائنات ليست واضحة تماماً. ومع ذلك، فإنَّه وحسب علماء من جامعة كامبردج Cambridge فإنَّ الجينات الغريبة (أي من مصدر غريب) يمكن أن تكون قد اكتُسِبَت بكميات كافية لتؤثر على تطورنا.

فانتقال الجينات بين الأحياء التي تعيش في نفس البيئة يُعرَف بالنقل الجيني الأفقي (HGT) Horizontal Gene Transfer . وهذه الظاهرة معروفة بشكل جيد عند الكائنات وحيدات الخلية، ويُعتقد أنَّ هذه العملية مهمة لفهم سرعة تطور البكتيريا، فعلى سبيل المثال، مقاومتها للصادات الحيوية. وبالمقابل فقد تم تسجيل عدد قليل من حالات النقل الجيني الأفقي في الكائنات كثيرات الخلايا.
ويُعتَقَد أنَّ النقل الجيني الأفقي يلعب دوراً مهماً في تطور بعض الحيوانات، بما فيها الديدان الممسودة Nematoda، والتي حصلت على جينات من الأحياء الدقيقة والنباتات، وبعض الخنافس التي حصلت على جينات بكتيرية لإنتاج أنزيمات لهضم ثمار القهوة. لكنَّ فِكرة النقل الجيني الأفقي حدث عند الأحياء الأكثر تعقيداً، كالإنسان، بدلاً من كونه يحصل عليها بمفرده عن طريق أسلافه، فهو موضوع خاضع للنقاش والجدل على نطاق واسع.

وفي محاولة منهم لتوضيح هذا الأمر، قام علماء من جامعة كامبردج باستثمار التوفر الحالي لعدد من كافٍ من المورثات ونسخ من الحمض الريبي النووي RNA، وذلك للقيام بفحص تفصيلي للنقل الجيني الأفقي عند 26 نوع حيواني (10 أنواع من الرئيسيات، و12 نوع من الذباب، و4 أنواع من الديدان الممسودة). وتحليل مبسط عند 14 نوعاً إضافياُ من الفقاريات. وبعد الدراسة الجينية المقارنة والتحليل التطوري للسلالات، حدد العلماء أنَّ النقل الجيني الأفقي عند الحيوانات يعطي تقريباً عشرات أو مئات من الجينات الغريبة الفعَّالة، معظمها له علاقة بالاستقلاب!
نُشرت هذه الاكتشافات في الثالث عشر من شهر آذار في مجلة بيولوجيا الجينوم Genome Biology، وبالتحديد في مقالة بعنوان "تعبير الجينات العديدة المكتسبة أفقياً يشكل بصمةً في جينوم الفقاريات واللافقاريات". أكدت هذه المقالة أن عدداً من الجينات، بما فيها جينات الزمر الدموية (ABO)، قد تم الحصول عليها عند الفقاريات عن طريق النقل الجيني الأفقي. أما معظم باقي الجينات المكتسبة فهي تتعلق بالأنزيمات الداخلة بعمليات الاستقلاب.

فعلى سبيل المثال، ظهر أنَّ بعض الجينات التي حصل عليها الإنسان بالنقل الأفقي كان لها دور في استقلاب اللبيدات (الدسم)، بما فيها تحطيم الحموض الدهنية وتشكيل الغليكولبيدات. وكان لجينات أخرى دور في الاستجابة المناعية، بما في ذلك الاستجابة الالتهابية، وإرسال الإشارات في الخلايا المناعية، والاستجابة المضادة للبكتيريا، بينما تتضمن فئة مختلفة من الجينات عملية استقلاب الحموض الأمينية، والتعديل البروتيني، والنشاطات المضادة للأكسدة.

يقول قائد هذه الدراسة: "إنَّ هذه الدراسة هي الأولى من نوعها فهي تُظهِر للمرة الأولى إلى أيِّ مدىً يحدثُ النقل الجيني الأفقي في الحيوانات، بما فيها الإنسان، مظهرةً عشرات أو مئات الجينات الغريبة الفعالة. ومن المثير للدهشة، وبعيداً عن كون هذه العملية نادرة الحدوث، فقد ظهر أنَّ النقل الجيني الأفقي ساهم في تطور العديد، إن لم يكن جميع الحيوانات، وهذه العملية مازالت مستمرة، وهذا يعني أنه ينبغي علينا إعادة تقييم آلية تفكيرنا تجاه التطور".

وأكد العلماء أنَّهم قد وجدوا 17 جيناً منتقلاً بالطريق الأفقي، و128 جيناً غريباً إضافياً في جينوم الإنسان لم يسبق وأن تمَّ توصيفها.
كتب مؤلفو المقال في مجلة بيولوجيا الجينوم: "يحدثُ النقل الجيني الأفقي بنسب منخفضة لكنها ملحوظة عند جميع الحيوانات التي تم فحصها. حدث ذلك عبر الزمن ومازال يحدث باستمرار، وقد نشأ بشكل رئيسي من البكتيريا والأوليات. والجينات المنتقلًة عموماً تقوم بتفعيل نشاطٍ إنزيميٍّ". ويضيف الكاتبون: "من المثير للاهتمام عدم وجود اختلافٍ في نسبة الجينات المنتقلة أفقياً بين الفقاريات واللافقاريات، وهذا الأمر مفاجئ إذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلافات في مستوى التعقيد بين المجموعات الحيوانية، ولكن يمكن تفسير هذا الموضوع بملاحظة الجينات الأقدم المنتقلة أفقياً، ما يعني احتمال حصول هذا الانتقال عند الفقاريات في مراحل مبكرة من تطورها".

ويفيد معدُّو المقال أيضاً بأنَّ تحليلهم يمكن أن يكون قد قلَّل من الحجم الحقيقي لهذه الجينات عند الحيوانات، وأنَّ الانتقال المباشر بين المتعضيات كثيرات الخلايا المعقدة ممكن أيضاً، وهو معروف أساساً في بعض العلاقات بين الطفيلي والمضيف.

لهذه الدراسة أيضاً تأثير على مشروع دراسة تسلسل الجينوم بشكل عام. حيث أنَّ مشروع الجينوم يزيل التسلسلات البكتيرية غالباً على اعتبار أنها نتيجة "تلوث" في العينة. يقول المؤلفون "إنَّ عملية فحص التلوث مهمة جداً، لكن لا يجب تجاهل التسلسلات الجينية البكتيرية التي أصبحت جزءاً أصيلاً من الجينوم البشري والتي انتقلت عن طريق النقل الجيني الأفقي".

المصادر:
الدراسة الأصلية: هنا
هنا