الفنون البصرية > فن وتراث

النبيذ، ملك المشروبات ورحلتُه في العصور الوسطى.

النّبيذ، هذا المشروب العريق الذي حظيَ بشعبيّة كبيرة منذ قديم الأزمان، ففي العصور الوسطى كان النّاس يقومون باختبار جودة النّبيذ من حيث لونه ورائحته و طعمه. و الملفت في ذلك أنهم كانوا يختارون شخصاً من بينهم ليحدّد لهم النّوع الأفضل لهم و"لصحّتهم"... نعم لقد قرأتَها جيّداً... "صحّتهم "!.

فوفقاً للخبير في التاريخ الغذائي من جامعة هارفارد ‘ألن غريكو‘، فإنّ تحديد نوع النّبيذ الجيّد الذي يُنصَح بشربه في القرون الوسطى، كان قراراً معقّداً للغاية، فوفقاً لمقاله: "النّبيذ في القرون الوسطى وعصر النّهضة: هو المذاق والنظريّة الغذائيّة وكيف تختار النّبيذ الأفضل (من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر)" إذ نجد أن ‘غريكو‘ يركّز على مصادر إيطالية في بحثه حيث يُجمع الشاربون الحديثون للنّبيذ على أهمية مصدر النّبيذ وأين تمّ تصنيعه، في حين أنّ هذا لم يكن مهماً في القرون الوسطى.

بدلاً من ذلك، بعض الأفكار المتشكلة عن علماء العصور الوسطى أو القرون الوسطى (أفكارهم وصحتهم الشخصية) اعتُبرت هامة جداً في تحديد نوع النبيذ الأنسب للشرب.

كان الإقتناع السائد أن جميع الأشياء تُقاس بأربع صفات (ساخن وبارد وجاف ورطب) وللحفاظ على الصحة الجيدة يجب أن توفّر وجبُتك من الطعام والشراب التوازنَ بين مستويات هذه الصفات في جسمك.

كتب ‘غريكو‘: "على سبيل المثال في الصيف، موسم الدفء والجو الجاف، النوع الأمثل من الطعام والشراب يجب أن يؤمّن الرطوبة والبرودة للجسم، مما يسمح باعتدال حرارته قدر الإمكان، حيث اعتبر أنّ الحفاظَ على رطوبةٍ متوسطةٍ للجسم هو الوضع الأمثل صحياً. أما بالنسبة للمسنين فإنّ درجة حرارة أجسادهم بطبيعةِ الحال منخفضة، لذا يُنصح بتناول المغذيات الرطبة والمشروبات الحارة بغية معادلة درجة حرارة الجسم".

بحلول القرن الثالث عشر أصبحت النصوص الطبية تحتوي على قطاعاتٍ واسعةٍ تتحدث عن الحفاظ على حميةٍ صحية، وشرب النبيذ كان موضوعاً شائعاً فيها. هذه النصوص غالباً ما أشارت لوجود فروق كبيرة بين أنواع النبيذ. على سبيل المثال الطبيب ‘سيزار كريفالاتي‘ في القرن السادس عشر شرح أنّ هناك أنواعاً مختلفة من النبيذ حيث أن بعضها جديد وبعضها قديم و منها الأبيض والأحمر والحلو والخام والمطبوخ والمجفف بالشمس وذو الرائحة والذي يفتقر للرائحة والأُحضِر من الجبال والأُحضِر من الوديان والذي ذو التأثير القوي وذو التأثير الضعيف... إلخ

وجد الناس في العصور الوسطى أنّ هناك الكثير من الألوان في النبيذ إلى جانب الأحمر و الأبيض، فالبعض يمكن أن يكون أسوداً (أحمر غامق جداً) أو ذهبي أو أخضر أو حتى وردي. هذه الألوان يمكن أن تتغير كلما عُتّق النبيذ. كما أنّ رائحة النبيذ تُعدّ من الأمور المهمة أيضاً.

كما علّق طبيبٌ آخر "ميشيل سافونارولا" أن: "سكان ‘بادوا‘ يعرفون هذا أكثر من غيرهم، فدائماً ما يقومون بهز كأس النبيذ قبل الشرب ووضع أنوفهم فيها من أجل الحكم عليها. فإن لم يتمكنوا من تمييز الرائحة فإنهم يسخرون من النبيذ قائلين أنه "ضعيف".

طبعاً الطعم يهمّ أيضاً، وبينما الناس في العصر الحديث عادة ما يصنّفونَ النكهات (مالح أو حلو أو مر أو حامض)، فإن الناس في القرون الوسطى يجدون في أي طعام ما بين سبعة وثلاثة عشر نوع من النكهات، بما في ذلك دهني وخلّي وفظّ .

إنّ النبيذ لديه مجموعة من النكهات، تتراوح من القوي والحلو إلى المرّ والضعيف. ويُوصى بتناول النبيذ الحلو بكميات صغيرة وفي مناسبات خاصة كحفلات الزفاف والأعياد، حيث أنّ تناول الكثير من هذا النوع يسبب إرتفاعاً في درجة حرارة الجسم، الذي بدوره يؤدي إلى أضرار ونتائج سيئة من الناحيتين الجسدية والأخلاقية.

يضيف "غريكو" أنه بعد أن يتم تحديد طبيعة النبيذ، يبقى من الضروري على المستهلك أن يركز على أربعة نقاط أخرى.

أولاً: وقبل كل شيء، مزاج وطبيعة الأشخاص الذين سيشربون النبيذ.

ثانياً: تحديد نوع الغذاء الذي سيرافق الشراب المختار.

ثالثاً: الوقت من السنة الذي سيتم الإستهلاك خلاله.

ورابعاً وأخيراً: من المهم أيضاً أخذ الموقع الجغرافي الذي سيتم فيه الإستهلاك بعين الإعتبار.

على سبيل المثال عند تناول الأسماك والطعام البارد والرطب، من الأنسب تناول النبيذ الساخن ولكن هذا الخيار من غير المستحسن تطبيقه من قِبَل الشباب اليافع.

كما يشرح ‘بيسانيللي‘: "هو كإضافة النّار إلى النّار فوق الأخشاب الضعيفة" في الوقت ذاته من الأفضل شرب النبيذ الدافئ الذي يساعد على تعديل حرارة الجسم ويقلل من فقده لها.

يتساءل البعض إن كان هذا العدد الهائل من عوامل الإختيار سيؤدي بالمستهلك لأخذ أوّل مشروب متوفر أمامه. يجيب ‘غريكو‘ أن الرسائل و الوثائق تشير أن الأشخاص في العصور الوسطى كانوا يهتمون جداً بهذه المعايير ويأخذونها بجدّيّة كبيرة، كما يحاولون أن يحققوا أكبر قدر منها، ليتناسب مع التوجيهات المناسبة. مثلاً: نصح صانعوا النبيذ أنه لتبريد النبيذ الساخن، يجب أن تعلّق قارورة من الفضة أو قطعة من الرصاص في وسط برميل النبيذ، فتقوم بامتصاص بعض من حرارة النبيذ.

بذلك نلاحظ أن موضوع صنع الخمور تعدّ مهنةً قديمة خاضعة لكثيرٍ من المعايير و ليست مجرد مشروبات كحولية لا تهدف إلا للمتعة.

بالحديث عن النّبيذ في العصور الوسطى لا بدّ لنا أن نعرّج على الفنّ الذي طرح هذه الفكرة في تلك الحقبة. اخترنا لكم لوحةً للرسّام الإيطالي ‘كارافاجّو‘ والتي تحمل اسم " باخوس " هذا الإسم الذي أُطلقَ على الإله اليونانيّ "ديونيسوس ".

يُظهر لنا الرسامُ ‘كارافاجّو‘ في هذه اللوحة الإلهَ باخوس بصورة المراهق الإيطاليّ، يلبسُ إكليلاً من ثمار العنب وأوراق الدّالية الذابلة والمصفرّة. إلى جانبه سلّة الفواكه المتغضّنة أيضاً في إشارةٍ منه على كينونة الحياة الدنيويّة التي ستزول حتماً.

ومن الطّريف أيضاً أنّ ‘كارفاجّو‘ لم ينسَ أن يُظهرَ لنا الإله باخوس وهو بحالة سُكْرٍ خفيف إذ يتجلّى ذلك من خلال شحوب جسده واحمرار خدّيه ووضعيّة جسده المائل على فراشٍ في قصر الكاردينال في روما.

الكثير من التفاصيل في هذه اللوحة تُعزّز فكرة الاستهتار أو المتع الجسديّة أو ربّما تكون " طبيعيّة ببساطة " كما يقول بعض الناقدين. فمثلاً نلاحظ أظافره المتّسخة و اكتفاء باخوس بستر جزءٍ من جسده بغطاءٍ أبيض، ويكشف جزءاً من القسم العلويّ لجسده.

أمّا عن سرّ حمله لكأس النّبيذ بيده اليسرى فيرجّح الفنّان "باجيلوني جوفاني" أنّ كارافاجّو كان يرسم مستعيناً بمرآةٍ في أعماله ما يعني أنّ الإله كان يحمل الكأس بيده اليمنى إلّا أنّ انعكاس الصورة جعل الكأس تبدو محمولةً في اليد اليسرى.

جديرٌ بالذكر أن هذه اللوحة رُسمت في عام 1595 وهي محفوظة الآن في إيطاليا مدينة فلورنسا في معرض "دلي أوفّيتسي" “Galleria degli Uffizi “.

المصادر:

هنا

هنا