الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

- ثلاث سنوات عجاف من تاريخ سوريا الحديث

شهدت منطقة بلاد الرافدين وسورية أشدّ موجة جفاف قبيل العام 2011 مقارنةً بالسجلاّت المتوفرة. ولنتفق قبل كل شيء على ما نقصده عندما نصف الفترة التي مرّت سوريا بها بفترة "جفاف". نقصد بذلك الفترة التي كان فيها الهطول ولمدة ثلاث سنوات متلاحقة أقل من المعدّل الطبيعي الذي كان مستمرّاً على مدى قرن من الزمن.

كان الانخفاض الكبير في هطول الأمطار في سوريا المسبّب الرئيس للجفاف، وهو نتاج مزيج من تقلبات طبيعية بالإضافة إلى التوجه العام للمنطقة نحو مـُناخ أكثر جفافاً على المدى الطويل.

ماذا حدث؟

ازدهرت الزراعة وتربية المواشي في سورية والعراق منذ 12 ألف سنة، ثمّ شهدت هذه المنطقة السنوات الثلاث الأكثر جفافاً بدءاً بشتاء العام 2006 – 2007 وفقاً للوحدة المـُناخية في جامعة أنجليا East Anglia Climatic Research Unit وبالاعتماد على تاريخ المـُناخ وبيانات محطات رصد في دير الزور على الفرات وفي القامشلي قرب الحدود التركية. إذاً فقد كانت هذه الفترة الأسوأ مقارنةً بما توفّر من سجلات على الأقل. مرّت سورية وبلاد ما بين النهرين بانخفاض في الهطولات (مهم/ذو دلالة إحصائياً statistically significant)* نسبته 13% منذ العام 1931، ولم تكن المعلومات حول الهطولات قبل ذلك التاريخ مؤكّدة لقلة وتباعد بيانات محطات الرصد. تبيّن أن هنالك توجهاً طويل الأمد نحو التجفاف وهو ما تعكسه التغيرات الأخيرة في بيانات رصد الأقمار الصناعية للمياه الجوفية؛ وكذلك، لكن بشكل أقل، ما تعكسه تقديرات التغييرات في الغطاء الأخضر. يظهر الشكل بيانات الاستشعار عن بعد لأثر الجفاف في عام 2008 من وكالة ناسا حيث انخفض هطول الأمطار بشدة تتناسب مع قتامة اللون.

فاقم الجفاف مشاكل الزراعة والأمن الزراعي وتسبّب بوفيات في قطعان الماشية وبمشاكل ضخمة، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى هجرة 1.5 مليون شخص من المناطق الريفية إلى محيط المدن تاركين وراءهم كل ّنشاطاتهم. ومما زاد خطورة الموقف شدّة الجفاف وضعف الاستعداد له، بمعنى حساسية سورية له وللآثار الاجتماعية المترتبة عليه (انتظر مقالنا القادم).

تعد المنطقة الشمالية الشرقية في سورية سلة خبزها، إذ تنتج أكثر من ثلثي الإنتاج الزراعي في البلاد. انخفض المتوفر من المياه الجوفية عام 2006 - 2007 في هذه المنطقة؛ وفي حين كانت الزراعة تشكل 25% من الناتج الإجمالي المحلي السوري العام 2003، فشل إنتاج القمح بعد الشتاء الجاف في عام 2008 وانخفضت الأسهم الزراعية بنسبة 17%. عانى حينها المزارعون الصغار والمتوسطون إضافةً إلى رعاة الأغنام من إنتاج كاد أن يكون معدوماً، ولأول مرة منذ إعلان الاكتفاء الذاتي منتصف العام 1990 اضطرت سوريا لاستيراد كمية كبيرة من القمح. لم يكن الشتاء وحده المشكلة، فخلال الصيف الذي ازدادت حرارته أيضاً يزداد التبخر وتزداد معاناة المحاصيل الشتوية (كالقمح) التي تعتمد في هذا الوقت على وفرة المحتوى الرطوبي للتربة. كذلك فإن انخفاض هطولات الأمطار في الشتاء وزيادة التبخر في الصيف، يقلل الفائض الذي يغذي المياه الجارية واحتياطي المياه الجوفية.

ازداد معدل الحرارة السنوية لسطح الأرض في المنطقة بشكل مهم إحصائياً (statistically significant) خلال القرن العشرين، حتى أن زيادة الاحترار في المنطقة منذ عام 1901 فاقت الزيادة في متوسط درجة الحرارة العالمية وقد حدث هذا أساساً في السنوات العشرين الأخيرة؛ فقد كانت الحرارة خلال الفترة من 1994 حتى 2009 أعلى من متوسط حرارة القرن.

وقفةٌ مع الأسباب:

ترتبط تغيرات هطول الأمطار السنوية بمعدلات الضغط عند مستوى سطح البحر شرقي المتوسط التي تظهر أيضاً تغيراً على المدى الطويل، وقد عانى شرق المتوسط مؤخّراً من ارتفاع الحرارة إضافةً إلى انخفاض رطوبة التربة. لا سبب طبيعي واضح لهذه الاتجاهات (التغيرات)، إلا أن التجفاف والاحترار المرصودين يتفقان مع النماذج التي تحاكي الاستجابة لزيادة غازات الدفيئة؛ وتظهر هذه النماذج مستقبلاً أكثر دفئاً وجفافاً.

اعتمدت سورية على الأمطار، كما أنها استفادت من مياه الأنهار التي تمرّ عبرها قادمةً من منابعها في جبال الشرق التركي، وعلى الرغم من السيطرة التركية على تدفقات دجلة والفرات بإنشائها السدود، تعاونت سورية وتركيا في السنوات الأخيرة قبيل وخلال موجة الجفاف بأن زادت تركيا من تدفق المياه المتجهة إلى سورية. إذاً فتقلبات الهطول الحاصلة على الجبال التركية تؤثر على مياه سورية مباشرةً، وتتبع هذه التقلبات إلى التأثير المتذبذب لشمالي المحيط الأطلسي ولو أن تأثيره ضعيف، لكنّ الثابت أن تحليلات ورصد هذا التأثير تظهر توجّه المنطقة نحو مزيد من الجفاف في فصل الشتاء في النصف الأخير من القرن الـ 20.

يسبب التقلب المـُناخي الطبيعي إضافة إلى تأثير ثاني أوكسيد الكربون المسبب للاحترار العالمي احتمالية حدوث جفاف أكثر بـ 2-3 مرات مما تسببه التقلبات الطبيعية وحدها؛ فما بالك إن أضفنا إلى ذلك الممارسات البشرية الخاطئة!.

من جملة الأسباب أيضاً ما يعرف بالمرتفع السيبيري الذي يسبب هبوب رياح شمالية شرقية باردة جداً وجافة على سورية تسببت بزيادة برودة الشتاء خلال النصف الثاني من القرن العشرين. يمنع تقُّدم هذا المرتفع غرباً المنخفضاتِ الجويةَ الجبهية من الاتجاه شرقاً؛ ليعطّل بذلك عمل تلك المنخفضات المعروف في حمل الأمطار إلى الداخل السوري. كذلك فإن ميل الأمطار في سوريا نحو التناقص يعود إلى انزياح النطاقات المـُناخية في النصف الشمالي للكرة الأرضية نحو الشمال مما يعني زحف نطاق المـُناخات الصحراوية بنفس الاتجاه وبالتالي وصول المؤثرات المدارية والقارية إلى سورية.

انعكاس الجفاف على الاقتصاد، والأهم، على المجتمع:

أدى هذا الجفاف –بشكل رئيسي– إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية السورية، حيث ازدادت أسعار الأرز والأعلاف والقمح إلى أكثر من الضعف. بحلول شباط/فبراير من عام 2010، ازدادت أسعار الأعلاف بمقدار ثلاثة أرباع. كما انتشرت الأمراض المرتبطة بالتغذية بين أطفال المحافظات الشرقية ومعها تزعزع استقرار المجتمع الزراعي وزادت الهجرة الجماعية، حيث قدر النزوح الداخلي بسبب الجفاف بـ 1.5 مليون معظمهم هاجر إلى أطراف المدن السورية التي يرتفع فيها أصلاً معدل زيادة السكان (2.5% سنوياً)؛ يضاف إلى ذلك تدفّق 1.2 – 1.5 مليون عراقي بين العامين 2003 و2007 وبقائهم في سورية خلال فترة الجفاف.

شكل السكان النازحون داخلياً إضافةً إلى العراقيين، عام 2010، أكثر من 20% من سكان المدن السورية؛ فمن 8.9 مليون إنسان قطنوها عام 2002 قفز هذا الرقم إلى 13.8 مليون عام 2010 بزيادة تفوق الـ 50% خلال 8 سنوات فقط. وهكذا فإن زيادة الكثافة السكانية في المدن، خاصة في الأحياء العشوائية، الذي ترافق مع ضعف البنى التحتية وانتشار البطالة، جعل المشكلة التي بدأها الجفاف تتفاقم إلى أخرى ديموغرافية واجتماعية.

أخيراً وبصرف النظر عن الأسباب الطبيعية الخارجة عن سيطرتنا فإن ضرب الجفاف لنا بهذه القسوة أمرٌ قد لا نستطيع تبرئةً أنفسنا منه، فالبشر كانوا ولا يزالون يغيرون بأنشطتهم معالم الأرض. انتظروا مقالنا القادم لتعرفوا دور السوريين في مفاقمة أثر الجفاف على سورية.

للتوضيح:

*الأهمية الإحصائية (statistical significance): أن يكون حدث/علاقة ما مهمة إحصائياً يعني أن يكون احتمال الحدوث العشوائي (الناتج عن صدفة/خطأ) له منخفضاً. في مقالنا: انخفاض الهطولات المطرية ذو أهمية/دلالة إحصائية، وهذا يعني أن حدوثها نتيجة الصدفة سيكون احتماله منخفضاً (أقل من 5 %)

المصادر:

العطية، محمد عدنان؛ الموسى، فواز أحمد. 2009-2010. أسباب التغيير المـُناخي. دراسة أعدت لنيل الإجازة في الجغرافية الطبيعية. قسم الجغرافيا- شعبة الطبيعية / كلية الآداب والعلوم الإنسانية / جامعة حلب / سورية

حليمة، عبد الكريم؛ وسلّوم، جولييت. 2013-2014. جغرافية سوريا العامة - قسم الجغرافية - لطلاب قسم الجغرافية / السنة الثالثة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية / جامعة تشرين / سورية

Evans J. and Geerken R. (2004). Discrimination between climate and human-induced dryland degradation. Journal of Arid Environments، 57(4): 535-554.

هنا

Kelley C. P.، Mohtadi S.، Cane M. A.، Seager R. and Kushnir Y. (2015). Climate change in the Fertile Crescent and implications of the recent Syrian drought. Proceedings of the National Academy of Sciences، 112(11): 3241-3246.

هنا