التاريخ وعلم الآثار > تاريخ العلوم والاختراعات

عبقرية الحضارة البشرية تتلخص في اختراعاتٍ عشر ... المقاهي

انتشر مشروب القهوة في العالم أجمع بشكل سريع فكانت البداية في الأرضي العربية وتحت حكم الدولة العثمانية في القرن الخامس عشر فأصبحت المقاهي أكثر شعبية حتى امتدت إلى أوروبا في بدايات العصر الحديث، إذ يستهلك العالم يومياً 1.6 مليار فنجان من قهوة، وهي كمية تملأ نحو 300 مسبح أولمبي، فأحدّثت هذه المقاهي تغييرات في أساليب الطعام والشراب ولكن التغيير الأبرز كان في ابتكار طرق جديدة في التفاعل الاجتماعي .

بدأت القصة من سعي الإنسان للحصول على المنبه الذي يبقي العمال يقظين طيلة الليل، وليس العمال وحدهم، بل كانت هناك فرق دينية في العالم الإسلامي تسعى للبحث هي الأخرى عن منبه يبقيها طيلة الليل نشيطة لأداء الشعائر الدينية المعرفة في أوقات الليل المتآخر، هذه الحاجة بقيت مطلباً يبحث عنه الكيميائيون في كل مكان، إلا أن أحداً لم يتوقع أن راعياً في الحبشة واسمه "خالد" قد اكتشف القهوة لتوه، إذا لاحظ أن الماعز بعدما تأكل حبوباً معينة تصبح نشيطة ومتحفزة وذلك بينما كان يرعى خرافه على سفوح الحبشة، ولكن الناس عندما سمعوا بالخبر لم يستسيغوا تناول الحبوب جافة، فأصبحوا يغلونها بالماء إلا أن عرفت بأمرها الفرق الدينية في اليمن، ليبدأ استمثار جديد، لقد حُلت المشكلة!

قبل التعريج على تاريخ المقاهي نذكر أن افريقيا زرعت البن في بدايات القرن التاسع إلا أنه لم يصل أوروبا حتى القرن السابع عشر .وفور وصوله اصطدم بآراء متباينة، ولكن هذا لم يمنع القهوة أن تشق طريقها كالنار في الهشيم رغم مقت الناس لوجودها، لقد ساهم التجار والحجاج في نقلها إلى الأراضي التركية حيث بوابة عبورها إلى أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر، ومن ثم إلى القاهرة في القرن السادس عشر.

لم تصل القهوة إلى بريطانيا عبر طريق مباشر من افريقيا بل عبر طرق البحر المتوسط التجارية مع العالم الاسلامي. وفي عام 1650 دخلت القهوة رسمياً غلى بريطانيا من خلال رجل تركي يدعى "باسكو روزي" أو "Pasqua Rosee" وأخذ يبيعها في البداية في مقهى بمدينة لندن على ساحة جورج (George Yard) بشارع لومبرد (Lombard Street) وكان المقهى يقع في وسط الحي التجاري في لندن،وأولى زبائنه كانوا من التجار في شركة بلاد الشام التي كانت تنظم وتنسق التجارة مع الامبراطورية العثمانية .وبعد 8 سنوات افتتح مقهى آخر يسمى "سلطانيس هيد" أي رأس السلطنة في كورنهيل.

أمّا عام 1662 افتتح " Great Turk Coffee Hous " ،وعلى ما يبدو كان بداخله تمثال نصفي للسلطان Almurath |V وهو من أكثر السلاطنة العثمانيين مقتاً .وكان يقدم هذا المقهى بالإضافة للقهوة ،الشاي، التبغ، الشوكولا، ومجموعة واسعة من المشروبات ، والتي كانت بحسب (The Mercurius Publicus) مصنوعة في تركيا، ومكونة من الليمون، الورود وعطر البنفسج. ليس فقط القهوة التي استطاعت شق طريقها إلى الناس بل الثقافة التركية بشكل عام .فقد شرع بعض الناس بارتداء العمامات في المقاهي.

ومن الواضح ان العلاقات الدبلوماسية التي انشأتها الملكة اليزابيث مع الأصدقاء الجدد المغاربة والعثمانيين سمحت بتأسيس علاقات تجارية جيدة واتفاقات بحرية، مما سرّع بوصول الأطايب إليها كالشاي من آسيا والبن والكاكاو من إفريقيا.

وجدت المقاهي في الشرق الاوسط قبل أكثر من مئتي عام من ظهورها في انكلترا ونذكر ان مقهى لندن في القرن الثامن عشر كان مركزا للخلاف على اكثر من صعيد، فحاول الملك آنذاك ان يحظر القهوة ويغلق المقاهي كونها مكانا للنقاشات السياسية. انتشرت المقاهي بسرعة كبيرة فبحلول عام 1663 كان هناك أكثر من 83 مقهى في لندن حتى وصل العدد في بداية القرن الثامن عشر حوالي 500-600مقهى.

وصفها النبيل الفارسي Baron Charles Louis Von Pollnitz الذي زار لندن في عام 1728 بأنها واحدة من أعظم متع مدينة لندن ،ووصف أيضاً كيف أصبح الذهاب للمقهى مرة على الأقل كل يوم ما يشبه القاعدة، حيث كانوا يتحدثون حول العمل والأخبار،فكانت المكان المناسب لقراءة الصحف ولقاء الأصدقاء. ويُقال ان بعض أشهر الشركات بدأت كمقهى كشركة التأمين Lloyds of London التي بدأت كـ "مقهى لويد" في شارع Tower حوالي عام 1688 .

نشأت المقاهي في الشرق الأوسط حوالي 1511 فكانت البداية كمكان بسيط لشرب ذاك المشروب الغريب "القهوة" وسرعان ما تطورت لأمكنة ساهمت في تغير التاريخ. قبل افتتاح المقاهي في لندن كان المكان الطبيعي لتجمع الناس هو الحانة. ربما اللافت للانتباه بالقهوة هو حداثتها او الابتهاج الذي يولده الكافيين، لكنها سرعان ما تحولت مكاناً للنشاط الاجتماعي .

المسافر الى لندن في 1668 كان يلحظ أن المقاهي والتي كانت عديدة هي أماكن مريحة جداً، فهناك كل الأخبار والمواضيع وتدفئة جيدة وبإمكان الشخص البقاء قدر ما يريد مع كوب من القهوة، تلتقي أصدقائك أو تعقد صفقة عمل ما، وكل هذا مقابل فرنك (penny) هذا اذا لم تريد أن تصرف المزيد .

الحقيقة المثيرة للاهتمام أن كل المقاهي تقريباً لم تكن تسمح للنساء بأن يكنَّ زبائن عندهم، بل وجبَ عليهن أن يكنَّ "زبائن" المنزل اذا اردنّ شرب القهوة .أدى منع النساء من ارتياد المقاهي الى بعض المشاكل ، والتي لُخّصت في ما عرف بـ : "عريضة النساء ضد القهوة" التي نشرت في عام 1674 مع أنها كانت عريضة مثيرة للسخرية إلا أن الإدعاءات والإشاعات حول القهوة كانت تؤخذ بشكل جدّي سواء كانت صحيحة او خاطئة .

بدأت الشائعات حول الفوائد الصحية للقهوة مع لمعان فكرة المقهى مما أظهر الفرق المميز بين الحانة والمقهى، وفي حين كانت المقاهي تعزز الرصانة والأفكار العقلانية وتوضح النقاشات السياسية لم تكن الحانات سوى ملاذا للاستخفاف والسكر. فلم تكن المقاهي مكاناً للهروب من العالم أو الإحساس بالملل، بل لمناقشة الأحداث الجارية وخلق أفكار جديدة عن الحياة وكيف يجب أن تكون .حتى ذاك الوقت لم يكن يوجد اي ملتقى او ندوة مخصصة للتجار والطبقة التجارية ليجروا مناقشاتهم. حتى أن بورصة لندن بدأت بجو مماثل حيث كان الشراة والبائعين يجتمعون فيها ويحددون اسعار السوق.

وكيل التأمين المشهور Lloyd's of London بدأ عمله في عام 1688 في مقهى مؤمّناً خدمة المعلومات المجانية عن الشحن ب"قائمة لويد". وازدهرت كمكان لتأمين الجنود. والغالب أن اكثر الرجال يجتمعون في المقاهي لمناقشة المواضيع السياسية الساخنة مما أثار خوف الملك. ففي عام 1675 أصدر ملك انجلترا تشارلز الثاني إعلاناً يتم بموجبه إغلاق كل المقاهي ولكن بعد صراع مع مالكي المقاهي ورجال أعمال آخرين تم الغاؤه. ولكن بدأ تهاوي مقاهي لندن بذات السرعة التي انطلقت بها. في مطلع القرن السادس عشر (1500) بدأت ثورة المقاهي في العالم وبعد هبوط مقهى لندن بدأ جيل جديد فكانت "ثورة" Starbucks افتتحت المقاهي في اميركا بأواخرالقرن السابع عشر وذلك بعد انتشارها في كل أنحاء أوروبا.

كان مقهى التجار في فيلادلفيا والمعروف أيضا بحانة المدينة ملتقى لبعض أرفع نبلاء ذاك العصر مثل: واشنطن، جيفرسون، فرانكلين، لافايت وادامز . أصبح "مقهى تونتاين" "The Tontine Coffee House" في نيويورك كبيت البورصة في موضة مشابهة لـ " لويد" "Lloyds Coffee House" في لندن .فلم تكن المقاهي مكان للتجارة المثقفة فقط بل كانت محور الأعمال والفرص . مع بدء انتشار القهوة بشكل أوسع نشأت اختراعات كثيرة متعلقة بها فيما يتعلق بالتخمير والتصنيع، وهناك متحف في لندن يعرض هذه الاختراعات (the Bramah Museum of Tea & Coffee).

كانت المقاهي الأوربية والأميركية تقدم قهوة سوداء تقليدية، مخمرة بوساطة نقع الجذور في مياه مغلية ، وصولاً في بدايات القرن العشرين لطرقٍ جديدة وأحدثت ثورة في صناعة القهوة .ومن هنا نذكر الايطالي لويجي بيزيرا الذي حصل على براءة اختراع لآلة تضخ البخار والماء عبر "حيّز" يُحمّل فيه بذور القهوة،فيما بعد اشترى ديسدريو باڤوني براءة الاختراع وبدأ بتصنيع الألات في عام 1905.

أول آلة لصنع الايسبريسو وصلت لأمريكا في عام 1927وعُرفت بـ ألة الباڤوني التي لازالت حتى اليوم معروضة في أول مكان نزلت فيه وهو مقهى ريجيو في نيويورك مع لافتة كتب عليها "Home of the Original Cappuccino" هذا الإختراع زاد سرعة صناعة القهوة بشكل كبير ،فاختزل أربع دقائق تخمير إلى عشرين ثانية ولذلك اسمها ايسبريسو كما أصبح للقهوة طعم أفضل مما كانت عليه بسبب البخار الساخن. وبعد عدة تعديلات على الفكرة من كريمونيسي لروزيتا سكورزا لاخيل غاغجيا في عام 1946 وصلت الآلة للشكل المعروف بالمكبس والرافعة.

الجدير بالذكر هو أن حانة غاغجيا في إيطاليا كانت أول من استخدم هذا النوع من الآلات وقدّمت الايسبريسو بالإضافة لتقديم القهوة العادية. أما اليوم فلدينا آلات أوتوماتيكية فعالة باستطاعتها فعل كل شيء من طحن حبوب البن حتى سكبها بالفنجان وهذه الآلات التي تعتمد عليها ستاربَكس كل يوم. وللخوض أكثر في معترك نشوء صناعة القهوة في ستاربَكس نجد أن المكونين الأساسيين لعملاق المقاهي ستاربكس كانتا الآت الايسبريسو والمقهى الايطالي ومن الغريب ان بداية ستاربَكس لم تكن لها اي علاقة بالايسبريسو.

بدأت ستاربَكس في سياتل كشركة لتحميص حبوب القهوة وبيعها بالتجزئة، فكانت تبيع للزبائن آلات عالية الجودة من هامربلاست لتصنيع القهوة في المنزل،وكان تركيزها على تحميص البن العالي الجودة من مختلف مناطق العالم وتجهيزه للقهوة . ونذكر أن مرشدهم ألفريد بييت كان صاحب متجر بييت للقهوة والشاي في باركلي كالفورنيا والذي كان أيضا متجرا لتحميص أفضل أنواع القهوة العربية.

مع النمو السريع لقاعدة زبائنهم لاحظ هاوارد شولتز نائب رئيس شركة هامربلاست ومنسقها في اميركا تسارع نمو المبيعات وقام بزيارتهم، في هذه الأثناء كان لدى ستاربَكس أربعة متاجر في منطقة سياتل وكانت رابحة في كل عام وكانت تشتري من هامربلاست اكثر من مكاي.

انبهر شولتز بشغف وأصالة مؤسس ستاربَكس حتى أنه أفاد بوجود شيء من السحر في المكان وأراد أن يذهب الى سياتل للعمل لديهم وبعد أكثر من عام من الاخذ والرد وافقوا على تنصيبه كمدير للتسويق. بعد عامي من بدء عمله أرسلوه لميلان ايطاليا لحضور معرض تجاري، وبينما كان يسير من مكان إقامته لمكان المعرض اكتشف شيئاً في المقاهي الايطالية أنها كـ حانة قهوة (بار) فكانت أوبرا ايطالية تعزف في الخلفية والنادلة المبتسمة تعد الايسبريسو وتتحادث مع الزبائن وعدد قليل من المقاعد .فانصدم شولتز بالعدد الكبير لبارات القهوة في تلك البلدة وبنشاطها.

عاد الى سياتل بإلهام وشغف حيث قوبل بعدم الرضا والمقاومة لفكرته؛ فـ ستاربكس كانت محمصة ليست مقهى أو حانة وعملهم بالمشروبات كان سيؤثر على مهمتهم ببيع التجزئة، لذلك كان جوابهم لا .بذات الوقت كان الملّاك متحمسين للفرصة التي جائتهم لشراء متجر بييت للقهوة والشاي وانتهزوها واشتروه . ظل شولتز حاملاً فكرته متنقلاً بين الشركتين وبعد مرور عام وافقوا اخيرا على السماح بوضع آلة اسبرسو في موقع واحد، وكانت تخدم حوالي 250 شخصا في اليوم وأحيانا كان يصل العدد الى 400 أو أكثر، وخلال شهرين زاد العدد إلى 800 وصار طابور الزبائن يصل الى خارج المتجر وبالرغم من نجاح المشروع إلا أن المُلّاك الأصليين أرادوا التوقف عن المتابعة، ورأى تشولتز أن الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله هو الرحيل وإنشاء عمله الخاص وكان نجاحه سريعا وكبيراً في ثلاثة متاجر مربحة.

في نيسان 1987 قرر مالكي ستاربكس بيعه، وتفاوتت الأسباب فأما الأول فكان من أجل المال والأخر كان يريد التركيز على بيت للقهوة والشاي بحيث يكون بيتاً أفضل وأكثر اصالة. عرف تشولتز بذلك وقرر شراءه وفعلا اشتراه وأحدّث تغييرا لأسماء مقاهيه فأصبحت تحت اسم ستاربكس. وبرؤيته وتصميمه وبمهارة قيادته استطاع تحويل ستاربكس الى الشركة ذات المقام الرفيع التي وصلت إليه.

المصادر:

الحسني، سليم (2011) ألف اختراع واختراع: التراث الإسلامي في عالمنا. مانشستر: مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة. ص12 - 13 بتصرف

هنا