الرياضيات > الرياضيات

لعبة البلياردو..فوضى أم ديناميكية؟

إن أبسط الأشياء قد تقودنا إلى فوضى و نتائج غير متوقعة إن حصلت، فمن الصعب أن نتنبأ بالطقس أو البورصة و غيرها أيضاً الكثير. يحاول علماء الرياضيات استيعاب الفوضى هذه بإلقاء نظرة على الأنظمة البسيطة التي تحويها، و أحد هذه الأنظمة البسيطة هي لعبة البلياردو.

"لعبة البلياردو الرياضية نموذج مثالي عن البلياردو الواقعية"، هكذا تشرح لنا عالمة الرياضيات كورينا أولسيجراي ( Corinna Ulcigrai) في جامعة بريستول Bristol عن رياضيات البلياردو، "الفكرة بسيطة: لدينا طاولة وكرة، و سنفترض أن الكرة لا تملك كتلة ولذلك لا يوجد قوى احتكاك. تتحرك الكرة على الطاولة كما تفعل في لعبة البلياردو الواقعية"، وهذا كل شيء. فهي تسير وفق خط مستقيم إلى أن تصطدم بالجهة المقابلة من الطاولة، وتعود بالاتجاه المعاكس وفق قانون الانعكاس (كما تشاهدون في الشكل التالي في الأسفل).

على عكس البلياردو الواقعية التي نعرف، طاولة البلياردو الرياضية لا تملك تلك الحفر التي تبتلع الكرات، وبما أننا افترضنا عدم وجود أي احتكاك على الكرة، فلن تتخامد حركتها و ستستمر بالحركة إلى مالانهاية.

إذاً كيف سيبدو مسار الكرة النموذجي؟

"إذا أطلقت الكرة بحيث يشكل المسار زاوية قائمة مع حافة الطاولة، فسوف تصطدم بالنقطة المقابلة على الجهة المعاكسة، وتتبّع أثر نفسها عائدةً إلى نقطة البداية وستستمر بالحركة وفق خط مستقيم بين هاتين النقطتين المتعاكستين إلى الأبد. وبنفس الطريقة إن استطعنا أن نتحكم بالشروط البدائية لانطلاق الكرة، ولنفترض أنه تم اطلاقها من منتصف أحد حواف الطاولة و بزاوية معينة، فإنها ستزور كل الحواف عند نقطة المنتصف وستعود لنقطة البداية وتستمر بالحركة على هذا المنوال إلى الأبد ".

الشكل التالي يوضح ما سبق:

قانون الانعكاس: زاوية الورود تساوي زاوية الانعكاس.

الصورة إلى اليسار: إذا انطلقت الكرة من الطاولة و هي تصنع زاوية قائمة مع حافتها فستستمر بالحركة ما بين النقطتين المتعاكستين للأبد.

الصورة إلى اليمين: بشكل مماثل، يمكننا أن نجعل الكرة تزور جميع حواف الطاولة.

الصورتين السابقتين مثالين عن المسارات الدورية (المتكررة).

وتبين فيما بعد أن هذا التصرف الذي تبديه الكرة نادر الحدوث. فقد أثبت علماء رياضيون في فترة الثمانينات أنه من أجل تغيير الاتجاه الابتدائي للكرة لمرات عديدة و متنوعة، فإن المسار سيكون أوسع مما سبق بكثير: فلن تكتفي الكرة بأنها لن تتبّع مسارها كما ذكرنا سابقاً فسوف ينتهي بها المطاف بأنها سوف تسبر كامل الطاولة، و ستقترب بشكل اعتباطي من كل نقطة عليها. والأكثر من ذلك فإن المسار لهذه الكرة عادةَ سيمكنها من زيارة كل أجزاء الطاولة بشكل متساو: إذا أخذنا منطقتين من الطاولة متساويتين، فإن الكرة ستمضي وقتاً متساوياً في كل منهما. هذا التصرف هو نتيجة أن البلياردو ديناميكية.

و يعني علماء الرياضيات بـ " الغالبية العظمى " أننا إن اخترنا أي اتجاه اعتباطي كاتجاه ابتدائي لحركة الكرة، فإنها على الأرجح ستتصرف بهذه الديناميكية.

تعني ديناميكية البلياردو أنه من الصعب جداً أن نتنبأ أين ستكون الكرة بعد فترة زمنية محددة: لنعرف بالتحديد أين ستكون الكرة علينا أن نفعل ذلك مستخدمين ورقة وقلم، ونقيس بدقة زاوية بعد زاوية لأننا لا نستطيع أن نعتمد على أي نمط منتظم لنبدأ منه.

قد لا يبدو الأمر غاية في السوء، إذ يمكننا أن نبرمج برنامجاً على حاسوب سريع ليقوم بالحسابات هذه بالنيابة عنا، لكن هنالك ميزة مستقلة تجعل الأمور أصعب. إذا أخطأنا خطأ بسيطاً في تقدير الشروط البدائية لحركة الكرة (أي المكان والاتجاه الذي تبدأ منه الكرة بالحركة) فبعد فترة من الزمن سوف يتضخم الخطأ وهذا سيجعل تنبؤاتنا غير دقيقة. إن هذا الاعتماد الحساس على الشروط الابتدائية يسمى (تأثير الفراشة) و هذا المصطلح شائع في نظرية الفوضى أي أن مجرد خطأ أو تغيير صغير في البداية يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة لاحقاً.

إن الفوضى هي غالباً سر جمال هذه اللعبة، فلا أحد يريد أن يلعب لعبة قابلة للتنبؤ، وليس لهذا السبب يدرس علماء الرياضيات البلياردو، بل لأن متغيرات هذه اللعبة تمثل نماذج لأنظمة ديناميكية (أنظمة متغيرة و غير ثابتة) موجودة من حولنا في الطبيعة.

لقد تطور مفهوم الديناميكية من خلال سياق دراسة الغازات، فالجزيئات المكونة للغاز تحوم و تصطدم ببعضها طوال حركتها. "إن الديناميكية خاصية مهمة من خواص النظام الفوضوي". شرحت ذلك أولسيجراي Ulcigrai وقالت أيضاً "لقد اقترح الفيزيائي لودفيج بولتزمان Ludwig Boltzmann في القرن التاسع عشر أن هذه الأنظمة فوضوية جداً لدرجة أننا إن ألقينا نظرة على مسار نقطة ما فإنها بمنطق ما ستسبر كل الاحتمالات المسموح بها نظرياً".

وبشكل مفاجئ فإن الديناميكية قادرة على أن تجعلنا نتنبأ بالنظام أكثر، هنالك نتيجة رياضية تسمى (نظرية بيركهوف Birkhoff الديناميكية) وهي تخبرنا أنه لو كان هناك نظام ما ديناميكي، فبالرغم من أننا لا نستطيع أن نتنبأ بدقة كيف سيتصرف بالمستقبل لكننا نستطيع أن نتنبأ بدقة بمقادير وسطية لمسارات نموذجية.

على سبيل المثال في البلياردو لا نستطيع أن نتنبأ أين ستكون الكرة بالتحديد بعد انقضاء فترة زمنية محددة، ولكن يمكن أن نتنبأ بدقة بأجزاء الوقت التي تقضيها الكرة في كل منطقة على الطاولة. لو كنا نتحدث عن غاز بدلاً من كرة البلياردو لكان من الصعب أن نجزم بمكان كل جزئية من جزيئاته عند لحظة زمنية ما، لكن نستطيع أن نتنبأ بأشياء مثل درجة حرارته أو ضغطه، إذاً فالديناميكية شيءٌ جيد في الأنظمة الفوضوية.

تغيير شكل الطاولة:

هنالك ظاهرة طبيعية سرعان ما تتحول لمشكلة عند الحديث عن البلياردو إذا قمنا بتبسيطها وهي ناقلية المعادن للكهرباء.

إن التيار الكهربائي عبارة عن تدفق جسيمات تدعى الإلكترونات. ولنبسط الموضوع أكثر فلنعتبر أن إلكتروناً واحداً يسري في المعدن ونتخيل أن المعدن عبارة عن جزيئات موزعة بشكل متساو في شبكة ثنائية البعد. وإذا فكرنا بالإلكترون على أنه كرة صغيرة فسيتصرف تماماً ككرة البلياردو على الطاولة التي تحوي شبكة من العقبات (بعض طاولات البلياردو ليست مستمرة بل تحوي عقبات لزيادة صعوبة اللعبة) كما في الشكل:

في الصورة ثلاثة مسارات محتملة (المسار الملون بالأحمر والملون بالأخضر و الملون بالأزرق) لحركة الكرة على طاولة تحوي شبكة من عقبات دائرية الشكل.

ولكي ندرس نظاماً كهذا، نحن بحاجة للتخلي عن ميزة إضافية للعبة البلياردو وهي الشكل المستطيل للطاولة. لربما من الأفضل كبداية أن نسأل أنفسنا ماذا من الممكن أن يحصل لو أن الطاولة لها شكل مثلث أو مسدس، وبشكل أعم ماذا لو كان للطاولة شكل مضلع حوافه خطوط مستقيمة، و أيضاً لو أنها تحوي حفراً تمثل العقبات التي افترضناها ؟ هل سيبقى افتراضنا السابق صحيحاً - أن المسار النموذجي عشوائي و يسبر كل أجزاء الطاولة ؟

الجواب: نعم، طالما أن الزوايا بين حواف المضلع تخضع للقاعدة p⁄q × π ، حيث p و q أعداد صحيحة (إذاً تنتمي نتيجة النسبة p⁄q لمجموعة الأعداد الكسرية ).

المستطيلات والمربعات تقع ضمن هذا الصنف ( لأن زواياها 1⁄2 × π)، وكذلك المثلثات متساوية الأضلاع (لأن زواياها 1⁄3 × π)، و الأشكال الخماسية المنظمة (لأن زواياها 3⁄5 × π)، والمسدسات المنظمة (لأن زواياها 2⁄3 × π)، مثلها مثل المضلعات المنتظمة الأخرى.

شكل لبداية مسار كرة على طاولة بلياردو مضلعة بحيث خمسة من زواياها تساوي n/2 أما الزاوية الباقية تساوي 3n/2 .

لكن النتيجة لا تبقى نفسها إن كانت الطاولة تحوي عقبات، حتى لو كانت زوايا الطاولة توافق القاعدة السابقة. إن لعبة البلياردو التي تحقق طاولتها الشروط السابقة تسمى (البلياردو المضلعة المنطقية).

إذا سمحنا لحواف الطاولة أن تكون منحنية عوضاً عن المستقيمة فإن كل النظام سيتغير. فقد تبين أن فوضوية اللعبة ستكون أقل لو أن الحواف تنحني للخارج كدائرة أو شكل بيضوي (إهليلجي) على سبيل المثال. في هذه الحالة هنالك العديد من المسارات الدورية (المتكررة) - تلك التي تتبّع مسار نفسها – التي لا تميل إلى سبر كامل الطاولة.

أمثلة على طاولة بلياردو مضلعاتها منحنية، كما نرى لا تسبر مسارات الكرة جميع أجزاء الطاولة.

من ناحية أخرى، إذا كان الشكل يتضمن أجزاءً من الحواف منحنية للداخل فستصبح اللعبة فوضوية أكثر. فإذا اعتبرنا مجالاً صغيراً من المواضع الابتدائية والاتجاهات، فإن المسارات الناتجة لن تتفرع فحسب، وإنما ستصل تفرعاتها إلى مساحة بحيث ستغطي في النهاية كافة مساحة الطاولة. فمجرد أي خطأ صغير في الشروط الابتدائية سيمنعنا من إمكانية معرفة موضع الكرة بعد فترة زمنية ما – وهذا مثال ينطبق على أحد الأنظمة الديناميكية التي تدعى الخلط أو المزج mixing.

بداية مسار لكرة على طاولة مقعرة – أي مضلعاتها منحنية للداخل.

البلياردو المضلعة المنطقية إذاً تمثل تجمع لمستويات عديدة من القدرة على التنبؤ.

"البلياردو المضلعة مثيرة للاهتمام ديناميكياً، لأنها تشرح نوعاً بطيئاً من الفوضى" تقول أولسيجراي Ulcigrai "إنها فوضوية، ولكنها أقل فوضوية من غيرها".

مفاجآت لامتناهية:

ربما من المفاجئ أن نعلم أنه قد استغرق علماء الرياضيات وقتاً ليبرهنوا نتائج البلياردو المضلعة أطول من الوقت ليبرهنوا البلياردو ذات الأشكال المنحنية. إن النتائج عن ديناميكية البليادرو المنحنية قد تم إثباتها سابقاً في الستينات سيما عبر ياكوف سيناي Yakov Sinai الذي أشرف على رسالة الدكتوراه لأولسيجراي Ulcigrai والحاصل على جائزة آبيل Abel، وهي أكثر جائزة معتبرة في الرياضيات لمساهمته في نظرية الأنظمة الديناميكية.

لم يكن بمقدور علماء الرياضيات حتى الثمانينات أن يتعاملوا مع الطاولات المضلعة التي تبدو مستقيمة للأمام. ويُعزى النجاح الذي حققوه إلى خدعة رياضية مبتكرة، و هي تحويل المسارات المسننة و المتعرجة بشدة إلى منحنيات ملساء على سطوح جميلة مفهومة جيداً بالنسبة للعلماء، وهي تقنية رائعة تستحق الدراسة لمن يرغب بالتعمق فيها أكثر.

درست عالمة الرياضيات الروسية تاتيانا إرينفيست Tatyana Ehrenfest و زوجها باول paul تصرف الجزيئات في الغاز وشرحوا ذلك.

في عام 2013 ساعدت الأبحاث السابقة والتقنية التي ذكرناها العالمة أولسيجراي Ulcigrai في دراساتها للموضوع وأسفرت عن نتائج صادمة. وافترضت العالمة بالتعاون مع الرياضي فراسيزك كرزيسزتوف Krzysztof Fraczek وجود طاولة بلياردو لا منتاهية تحتوي شبكة من العقبات مستطيلة الشكل، وهذا النموذج يسمى إرينفيست (Ehrenfest ).

أن ندع مفهوم اللانهاية بالدخول في حساباتنا قد يبدو أمراً مخيفاً، لكن علماء الرياضيات يقومون بذلك بصورة منتظمة. وبما أنه تعميم مباشر للعمل بالشكل السابق – أي أن العقبات كلها مكونة من حواف مستقيمة و تلتقي بزوايا قائمة .

فقد توقع أولسيجراي Ulcigrai وفراسيزك Fraczek أنهما سيجدان أن الغالبية العظمى للمسارات ديناميكية هنا أيضاً، ولكن ما أثبتاه في النهاية كان على النقيض تماماً: فالغالبية العظمى ليست ديناميكية، "هنالك أنظمة أخرى حيث يكون السبب الهندسي لعدم ديناميكية مساراتها واضحاً". تقول أولسيجراي Ulcigrai، "إذا رسمنا المسار فإننا نلاحظ أنه يبقى ضمن شريط محدد على سبيل المثال، ولكن في نموذجنا لو رسمنا المسار فلن نرى سبباً واضحاً لعدم الديناميكية. فالمسارات تبدو أنها تسبر كامل الطاولة لكننا برهنا أنها لا تفعل ذلك، و هذا مخادع !".

نموذج (Ehrenfest): عبارة عن طاولة غير منتهية تحوي شبكة غير منهية من العقبات مسطيلة الشكل.

سيتطلب الأمر مزيداً من البحث للكشف عن سر هذا الغموض في البلياردو اللامنتاهية. أما في البلياردو المنتهية فنحن لا نزال نملك أسئلة: ماذا يحدث مثلاً لو أن الطاولة كانت مضلعة وزواياها عبارة عن مضاعفات غير منطقية لـ π ، مثلا √2 π ؟

في الحقيقة لا أحد يملك جواباً، فالسؤال مفتوح ولا تزال الدراسات قائمة للإجابة عن هكذا سؤال.

المصدر:

هنا