كتاب > مفكرون وكتّاب

تسعة أعوام على رحيل البدوي الأحمر

استمع على ساوندكلاود 🎧

ها هو يأتي زائرنا فيفترش صدر بيوتنا ويتوسد قلوبنا. هاهو بيننا شاهد متألق الخيال، حاضر بقوة عبر استحضار كلماته التي عانقت تاريخ الإنسان السوري لتنسجه نثراً وشعراً وأدباً، يرسم المستقبل ويتنبأ بالمجهول. إنه شاعر الربابة والشوارع والأزقة، شاعر الهوامش والمهمشين، المتفرد في الشعر العربي المعاصر.

وهل بإمكاننا أن نختصر ببضع كلمات تاريخ وشخصية مناضل و أديب مثير للجدل كمحمد الماغوط!

"محمد الماغوط لا يُقدم في أمسية تكريمية، ولا يقدم بكتابه المطبوع، بل يحق لمن يتورط في الإعلان عن ظهور شعره أن يطلق صفارة الإنذار، فها هنا غارة شعرية على ضمائرنا وعلى كل ما تعودناه من كذب ومكابرة وادعاء، إنني لا أقدم لكم شاعراً بل أطلق بينكم قنبلة انتُزع صمام أمانها".

ممدوح عدوان.

إنه البدوي الأحمر والعصفور الأحدب والمهرج وصاحب سياف الزهور. هو كل الأسماء التي حملتها عناوين كتبه ودواوين شعره، تلك التي أصدرها تباعاً بين قضبان السجن تارةً، وقضبان التضييق في وطنه تارةً أخرى، حتى خرج عن ذاته وكفر بما أحب وأعلن أن الفرح ليس مهنته وأنه سيخون وطنه.

وُلد محمد أحمد الماغوط عام 1934 في مدينة السلمية في ريف حماة، المدينة التي كانت في شعر محمد الماغوط الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه ومات حنيناً إليها. وهي الطفلة التي تعثرت بطرف أوربا وهي تلهو بأقراطها الفاطمية وشعرها الذهبي وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين، دميتها في البحر وأصابعها في الصحراء.

لكن، قبل أن نعطي الكلام لثائرنا وليد البساطة والفقر، يتوجّب علينا التكلّم عن أبيه «أحمد عيسى الماغوط»، الذي أنفق عمره في الكدح وكسب الرّزق الشريف من خلال عمله فكلاح في أراضي الآخرين بالغوطة لإعالة أسرته وتأمين حاجيات أولاده .

ترك الماغوط المدرسة في دمشق لأن والده أرسل رسالة إلى المدرسة يطلب الرأفة في حال ابنه من المدير نتيجة الفقر، والذي بدوره قام بتعليقها على لوحة الإعلانات. فما كان من الماغوط إلا الهروب من المدرسة.

عرَف السجن في حياته مرتين. يقول عن تجربته في السجن، "عندما سُجنت للمرة الأولى وكنت حينها في العشرين من عمري، شعرتُ بأن شيئاً جوهرياً تحطم في داخلي، كان هناك الكثير من الرعب والقسوة والمهانة".

دخل ساحة العراك حاملاً في مخيلته ودفاتره الأنيقة بوادرَ قصيدة النثر كشكل مبتكر وجديد وحركة رافدة كحركة الشعر الحديث. وقد لعبت بدائيته دوراً هاماً في خلق هذا النوع من الشعر؛ إذ أن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي. وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود، وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر.

أما في بيروت «حاضنته الثانية»، فقد تألق الماغوط ليصبح اسماً وعلماً كبيراً في عالم الأدب العربي، حيث أسس مدرسته الشعرية الخاصة من خلال مجلة شعر مع أدونيس ويوسف الخالد. وهناك تعرف على الشاعرة سنية صالح التي تزوجها بعد عودته إلى دمشق عام 1961، لكنها غادرت الحياة عام 1985 لتزيد من غربته ووحشته.

في السبعينات، عمل الماغوط في الصحافة في دمشق، حيث رأس تحرير مجلة الشرطة، كما نشر الكثير من المقالات الناقدة في صحيفة تشرين ومجلة المستقبل اللبنانية. وفي تلك الفترة بحث الماغوط عن وسائل أخرى للتعبير، فكانت مسرحياته المتوالية «ضيعة تشرين» و«غربة»، التي أراد من خلالها مخاطبةَ العامة ببساطة ودون تعقيد.

كما أسّس الماغوط القسم الثقافي في جريدة الخليج الإماراتية في ثمانينيات القرن الماضي وكان له فيها عامود يومي يكتب بالتناوب بينه وبين الأديب يوسف عيدابي.

كتب محمد الماغوط الخاطرة والقصيدة النثرية وكتب الرواية والمسرحية والسيناريو والمسلسل التلفزيوني والفلم السينمائي وهو في كل كتاباته حزين إلى آخر الدمع، وعاشق إلى حدود الشراسة.

يُعتبر محمد الماغوط من أبرز الثوار الذين حرَّروا الشعر من عبودية الشكل. وقد لعبت بدائيته دوراً هامّاً في خلق هذا النوع من الشعر معتمداً على عفويته التي نجتْ به من الجمود والتحجر وانفتحت به على كل آفاق اللغة.

كان رائياً كبيراً، لأنه كان شاعراً صادقاً وحقيقياً وشرساً، وهذا ما نفهمه من شهادة الشاعر نزار قباني، حين قال له "أنت، يا محمد، أصدقنا، أصدق شعراء جيلنا. حلمي أن أكتب بالرؤى وبالنفس البريء، البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينات. كان حزنك وتشاؤمك أصيلين، وكان تفاؤلنا وانبهارنا بالعالم خادعاً".

عاش الماغوط مع الكوابيس حتى صار سيد كوابيسه وأحزانه وصار الخوف في لغته نقمة على الفساد والبؤس الإنساني بكل معانيه وأشكاله. لغته مشتعلة دائماً، تُمسك بقارئها وتلسعه كلماتُها كألسنة النيران، وترجّه بقوة فيقف قارئُ الماغوط أمام ذاته ناقداً باكياً ضاحكاً مسكوناً بالقلق والأسئلة.

أيها المارّة

اخلوا الشوارع من العذارى

والنساء المحجبات

سأخرج من بيتي عارياً

وأعود إلى غابتي

محال... محال

أن أتخيّل نفسي

إلا نهراً في صحراء

أو سفينة في بحر

أو... قرداً في غابة

يقطف الثمار الفجّة

ويلقي بها على رؤوس المارّة

وهو يقفز ضاحكاً مصفقاً

من غصن إلى غصن

أنا لا أحمل هوية في جيبي

ولا موعداً في ذاكرتي

أنا لم أجلس في مقهى

ولم أتسكّع على رصيف

أنا طفل

ها أنا أمدُّ جسدي بصعوبة

لأدفن أسناني اللبنية في شقوق الجدران

أنا شيخ

ها ظهري ينحني

والمارّة يأخذون بيدي

أنا أمير

ها سيفي يتدلّى

وجوادي يصهل على التلال

أنا متسوّل

ها أنا أشحذ أسناني على الأرصفة

وألحق المارّة من شارع إلى شارع

أنا بطل... أين شعبي؟

أنا خائن... أين مشنقتي؟

أنا حذاء... أين طريقي؟

أما شراسته، شراسة لغته وكلماته، فيصفها الشهيد غسان كنفاني بأنها "كلمات مسلّحة بالمخالب والأضراس. ومع ذلك، فإنها قادرة على تحقيق إيقاع عذب ومدهش، وأحياناً مفاجئ، كأن يتحول صليل السلاسل إلى عزف منفرد أمام عينيك ذاتهما في لحظة واحدة".

مواطن عربي ينقل إبرة الراديو من محطة إلى محطة ويعلّق على ما يسمعه من أغانٍ وبرامج وأخبار وتعليقات، من الصباح الباكر حتى نهاية الإرسال في الوطن العربي.

إذاعة رقم 1: عزيزي المستمع، في نزهتنا الصباحية كل يوم تعالَ معنا إلى ربوع الوطن الحبيب حيث لا شيء سوى الحب والجمال.

المستمع: والتخلف.

إذاعة رقم 2: أغنية لفيروز "جايي، أنا جايي... جايي لعندك جايي".

المتسمع: يا فتّاح يا رزّاق، إنها حتماً فاتورة الماء أو الكهرباء أو الهاتف.

إذاعة رقم 3: عزيزي المستمع مع الورود والرياحين والنرجس والنسرين والفل والياسمين.

المستمع: أي فل وأي ياسمين. والله لو مات أحد أصدقائي في هذا الغلاء الفاحش فلن أستطيع أن أقدم له إلا إكليلاً من الخطابات.

إذاعة رقم 4: قصيدة اليوم: وللحرية الحمراء باب.

المستمع: بكل يد قابضة يدق.

إذاعة رقم 5: وإننا نعلن من هنا أن لا شروط لنا أبداً على تحقيق الوحدة العربية.

المستمع: باستثناء شرط واحد هو أننا لا نريدها.

إذاعة رقم 6: حكمة اليوم، قل كلمتك وامشِ.

المستمع: إلى البنك.

إذاعة رقم 7: يحذّرُ المجلس الأعلى لشركات الطيران العربية في مؤتمره المارقين والعابثين بقضايانا المصيرية ويضع كافة إمكاناته وطاقاته في خدمة المعركة.

المستمع: بما أن الأمور قد وصلت إلى شركات الطيران فمعنى ذلك أن القضية «طايرة قريباً».

إذاعة رقم 8: أغنية «حلم لاحَ لعين الساهر».

المستمع: عودة الحياة الطبيعية إلى لبنان.

إذاعة رقم 9: من أنبائنا الرياضية خرج الجواد العربي «نور الصباح» من الداربي الإنكليزي بعد الشوط الأول بسبب إهمال الجوكي وسقوطه عنه.

المستمع: طبعاً لأن العرب لا يعرفون أن يخيّلوا إلا على بعضهم.

إذاعة رقم 10: الاتحاد النسائي العام في الوطن العربي يدعو كافة أعضائه المنتسبات...

المستمع: .... إلى ترك أطفالهن دون رضاعة، وأزواجهن دون طعام، وبيوتهن دون ترتيب ومطابخهن دون جلي والتفرّغ لحلّ مسؤولياتهن وفضح المؤامرات التي تُحاك ضد قضيتنا وأمتنا، وكل فرع لا يتقيد بهذه التعليمات يغلق وتختم جميع مكاتبه «بالشكلس الأحمر».

إذاعة رقم 11: وكما قلنا وأكدنا مراراً نعلن أمام العالم أجمع أنه:

لا صلح

لا اعتراف

لا مفاوضات

المستمع: لا تكذبي، إني رأيتكما معاً.

إذاعة رقم 12: وإننا نؤكد أيضاً من هنا ولجميع شعوبنا العربية والإسلامية أننا لن نذهب إلى مؤتمر ولن ننسحب من جلسة ولن نتهاون في قضية ولن نساوم على حق ولن نتردد في مساعدة ولن نتراجع عن موقف ولن نفاوض ولن نصالح ولن نقرر إلا ما تمليه إرادة الشعوب.

المستمع: والشعوب في السجون.

إذاعة رقم 13: أغنية «دايماً وراك دايماً أتبع خطاك دايماً».

المستمع: معروفة المواطن والمخابرات.

إذاعة رقم 14: وبعد أن شرح سعادته لسفراء الدول الغربية الظروف الخطيرة التي تمر بها المنقطة، أعطاهم مهلة شهرين للعودة بأجوبة واضحة من حكوماتهم، وذلك قبل بدء حملة الانتخابات الأمريكية وانشغال العالم بها، لأن العرب مصممين أكثر من أي وقت مضى على صوم رمضان القادم في القدس والصلاة في عكا والوضوء في مياه نهر الأردن.

ثم استقل سعادته الطائرة في رحلة استجمام إلى أوروبا تستمر...

المستمع: إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية.

إذاعة رقم 15: وإننا في هذه الظروف المصيرية نحث جميع القادة والمسؤولين العرب على الالتزام بقرارات جميع القمم العربية دون استثناء: قمة الخرطوم وقمة الرباط وقمة بغداد وقمة فاس الأولى والثانية.

المستمع: عجيب، كل هذه القمم وما زلنا في الحضيض.

إذاعة رقم 16: والآن سيداتي سادتي، ومع اقترابنا من ركن المنزل تنضم جميع موجاتنا العاملة...

المستمع: إلى جبهة الصمود والكفاح العربي، ونقدم لكم طبخة اليوم.

إذاعة رقم 17: طريقنا إلى فلسطين لا بد أن تمر من بيروت.

المستمع: ومن جونيه.

إذاعة رقم 18: ومن موسكو.

إذاعة رقم 19: ومن واشنطن.

المستمع: من كثرة الطرق التي أصبحت تؤدي إلى فلسطين صارت القضية في حاجة إلى إدارة مرور.

المذيع : اخرس.

إذاعة رقم 20: فيروز تغني أنا وشادي... تربينا سوا... راح شادي... ضاع شادي...

المستمع: بس شادي؟

المذيعون العرب: اخرس.

المستمع: لن أخرس.

المذيعون العرب: ستخرس رغماً عن أنفك ( وتمتد مئات الأيدي من الراديو وتنهال عليك ضرباً وصفعاً): كلب، جاسوس، حقير، طابور خامس، إلخ.

إذاعة رقم 21: نأسف لهذا الخلل الفني، وسنعود إليكم فور إصلاحه.

إذاعة إسرائيل: لا... لا... خذوا راحتكم.

رحل الماغوط في الثالث من نسيان عام 2006 بعد أن أقعده المرض على كرسي متحرك، تاركاً وراءه عشرات الدواوين والمسرحيات والتي تشرح حال الشرق العربي. وهي لحيويتها وصدق توصيفها تبدو كما لو أنها كُتبت للتو.

أعماله:

1) حزن في ضوء القمر. (شعر) 1959.

2) غرفة بملايين الجدران. (شعر) 1960.

3) الفرح ليس مهنتي،. (شعر) 1970.

4) العصفور الأحدب. (مسرحية) 1960.

5) المهرج. (مسرحية) 1960.

6) الأرجوحة. (رواية) 1974.

7) ضيعة تشرين. (مسرحية) 1973.

8) غربة. (مسرحية) 1974.

9) كاسك يا وطن. (مسرحية) 1979.

10) حكايا الليل. (مسلسل تلفزيوني) إنتاج التلفزيون السوري.

11) وين الغلط. (مسلسل تلفزيوني) إنتاج التلفزيون السوري.

12) الحدود. (فيلم سينمائي) إنتاج المؤسسة العامة للسينما.

13) التقرير. (فيلم سينمائي) إنتاج المؤسسة العامة للسينما.

14) شقائق النعمان. (مسرحية) 1986.

15) وادي المسك. (مسلسل تلفزيوني) إنتاج التلفزيون السوري.

16) سأخون وطني. (مقالات نقدية) 1987.

17) خارج السرب. (مسرحية) 1999.

18) أعمال محمد الماغوط، شعر – مسرح – رواية. 1998.

19) سيّاف الزهور. (نصوص حرة) 2001.

20) المسافر. (فيلم سينمائي) قيد الظهور.

21) شرق عدن غرب الله (نصوص جديدة) 2005.

22) البدوي الأحمر (نصوص جديدة) 2006.

كما صدرت عنه عدة دراسات وكتب من أبرزها ملف أدبي مكون من عدة دراسات ومقالات ومرثيات كتبها نُقاد وكتاب وأصدقاء للماغوط جمعها الأديب عمر شبانة ونُشرت في موقع جهة الشعر.

بالإضافة إلى كتاب بعنوان «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي... مع نصوص مجهولة...غرام في سن الفيل... وستين قصيدة ومقالة» مؤلف من أربعمئة صفحة يحتوي على عشرات المقالات والقصائد جمعها الباحث اللبناني جان داية من جرائد ودوريات قديمة كان ينشر فيها الماغوط خلال الفترة من 1950 إلى 1962.

يقول الماغوط متندماً: "أشعر بالندم لأني تعلمت القراءة والكتابة، كنت أتمنى لو بقيت ذلك الفتى الأميّ الذي يرعى الغنم ويعيش في القرية حياة النور والغجر".

وفي تأبين الراحل محمد الماغوط قال الشاعر محمود درويش "لم يحضر محمد الماغوط كاملاً لعجز عكازه عن إسناد جبل، لكنه حضر صورة شاحبة وصوتاً متهدجاً ليذكرنا بأن للوداع بقية".

الجوائز التي نالها

1) جائزة «احتضار» عام 1958.

2) جائزة جريدة النهار اللبنانية لقصيدة النثر عن ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» عام 1961.

3) جائزة «سعيد عقل».

4) صدور مرسوم بمنح «وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة» للشاعر محمد الماغوط من رئيس الجمهورية بشار الأسد.

5) جائزة «سلطان بن علي العويس الثقافية للشعر» البالغة مائة وعشرون ألف دولار عام 2005.

هي محاولة لإضافة ورقة إلى كتاب الاحتفاء بالماغوط، ولا شيء أكثر، حتى تتاح فرصة أخرى لكتابة أكثر عمقاً. فهل تأتي تلك اللحظة التي نقرأ الماغوط فيها كواحد ممن هدموا الكثير من الجدران والأبنية والسجون، ليقيم حديقة صغيرة بحجم ظله وروحه؟

المصادر:

تقرير إعلامي على قناة الجزيرة "أدب السجون"

تقرير برنامج صدى المواطنة: إعداد رولا عبد الله الأحمد

"ديوان محمد الماغوط الأعمال الكاملة" 1980

إعداد: باسل الأمير حسن