علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

الموسيقى والحنين.

أجد نفسي غارقاً في الذّكريات القديمة عند سماعي لأغنية اعتدت على سماعها في أيّام المدرسة الثانوية.. أغنية واحدة تجعلني أشعر وكأنني في الثامنة عشر من العمر.. فبالنسبة لي تستطيع الموسيقا أن تشعرني بالحنين وتعيدني الى أيام جميلة عشتها في الماضي رغم صعوبتها في بعض الأحيان: تعيدني الى ذكريات الأصدقاء، أو الأيام الدراسية، أو ذكرى حبيب سابق.

هل تشعرك الموسيقا أيضاً بالتوق إلى الماضي؟ لعلك غالباً ما تتساءل عن سبب ذاك الشعور الجميل الغريب، فقد تلاحظ عند سماعك لأغانٍ اعتدت على سماعها في سنين المراهقة والعشرينات من عمرك ظاهرة غريبة، فالموسيقا التي أحببتها في تلك الفترة تعني لك أكثر من أي وقت مضى. قد يبدو ذلك غير منطقيّاً، لكن الباحثين لهم رأي آخر في ذلك.

أظهرت الأبحاث أنّ لهذه الأغاني تأثيراً على مشاعرنا، كون دماغنا يربطنا بالموسيقا التي سمعناها في فترة المراهقة أكثر من أيّ شيء نسمعه كبالغين وهو رابط لا يضعف مع التّقدم بالعمر. يعرف ذلك بالحنين الموسيقي 'Musical Nostalgia' الذي لا يقتصر على كونه ظاهرة ثقافية فحسب، بل هو سلوك دماغي عصبي.

لنفهم السبب الذي يجعلنا نتعلّق بأغانٍ معينة، علينا أولاً أن نفهم علاقة الدماغ بالموسيقا بشكل عام. فماذا يحصل عند سماغنا لأغنية للمرة الأولى؟

- التفسير العصبي الفيزيولوجي:

في المرة الأولى التي نسمع بها أغنية ما، تتحفّز القشرة الدماغية السمعيّة فنقوم بتحويل الإيقاع الموسيقي، الألحان والأنغام إلى مجموع مترابط متكامل، وبدءً من ذلك تكون ردة فعلنا للموسيقا متعلّقة بالطريقة التي نتفاعل فيها معها: فإذا قمت بالغناء أثناء سماعك لأغنية، تتحفّز القشرة أمام الحركية التي تعمل على تخطيط وتنظيم الحركات، ارقص مع الموسيقى فتقوم العصبونات بالتزامن مع دقات الموسيقا، انتبه جيداً لكلمات الأغنية وأصوات الآلات الموسيقية فتتحفز القشرة الجدارية التي تساعدك على الانتقال بين المحرضات الصغيرة المختلفة والحفاظ على التنبّه لها. استمع إلى أغنية تثير ذكريات خاصة فتعود القشرة أمام الجبهية (التي تحتفظ بالمعلومات المتعلقة بحياتك الخاصة وعلاقاتك) للعمل.

كما أظهرت دراسات لصور الدّماغ أن سماعنا لأغنيتنا المفضّلة يحرّض مناطق السعادة والمكافئة في الدّماغ، فتقوم بإفراز دفقة من الدوبامين، السّيروتونين، الأوكسيتوسين وعناصر كيميائيّة أخرى تعطي ذلك الشّعور الجيد. فكلما زاد حبّنا لأغنية معينة كلما تكافئنا أكثر بعناصر كيميائية تشعرنا بالسعادة، حتّى يطوف دماغنا بنفس المواد التي يبحث عنها متعاطو المخدرات (ومن هذا الشعور يستقي البعض قولهم بأن الموسيقى هي كالمخدرات في نشوتها :)).

أي أن الموسيقا تضيء شعلة من النّشاط العصبي عند كلّ الأشخاص، لكن عند اليافعين منهم، تتحوّل تلك الشّعلة إلى ألعاب نارية.. حيث يخضع دماغنا بين عمر 12-22 سنة لتبدلات عصبيّة سريعة وتلتصق الموسيقا التي نحبّها في تلك الفترة على فصوصنا الدّماغية للأبد.

- التفسير الاجتماعي وحس الهوية:

تعتبر الأسباب سابقة الذكر كافية لربط أغان معينة إلى دماغنا للأبد، لكنّ يضيف 'Daniel Levitin' صاحب كتاب "هكذا يبدو دماغك وأنت تستمتع للموسيقا" سبباً آخراً: حيث يرى بأن العامل الآخر الذي له دور كبير في الحنين الموسيقي هو الدور الكبير الذي تملكه موسيقا فترة المراهقة على حياتنا الإجتماعية، فنكتشف في فترة المراهقة الموسيقا بأنفسنا، ونقوم بذلك غالباً عبر الأصدقاء فنستمع إلى الموسيقا التي يستمعون لها كنوع من الانتساب وكطريقة للإنتماء إلى مجموعة ما فيدمج هذا الأمر الموسيقى بحسّ الهويّة لدينا.

تقترح نظرية أخرى أن هذه السنين ذاتها: سنين المراهقة، والتي تدعى بفترة "الذكريات العثرة" -أي الذكريات التي نستطيع استعادتها بأكبر وضوح من ماضينا- هي السنين التي تترافق مع تكويننا لشخصيتنا المستقلة ونظرتنا الشخصية لذاتنا ولمجتمعنا، إنها السنوات التي تصبح فيها انت! لذلك ليس بالغريب أن تكون تلك أقوى وأشد ذكرياتنا استرجاعاً. وهنا يأتي دور الموسيقى أولاً بأنها ذكريات بحد ذاتها، وثانياً بأنها مرتبطة بأقوى ذكرياتنا: بحبنا الأول، صداقاتنا الصغيرة، نجاحاتنا، أحلامنا، وهويتنا بالكامل..

في النهاية قد يعني ذلك أننا قد لا نشعر بالحنين لأي موسيقى كما سنفعل تجاه الموسيقى المرتبطة بتلك الفترة من حياتنا، ولكن ذوقنا في تغير مستمر وفي نضوج مستمر مع الوقت فهذا ليس بالخبر السيء بالضرورة. ما يهم حقاً هو أنه رغم مضي تلك الذكريات البعيدة، ما نحن إلا على بعد أغنية واحدة من العودة لها ولذلك الشعور العذب مجدداً.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

مصدر الصورة:

هنا