الفنون البصرية > عالم السينما والتلفاز

ولادةُ أحد أوائِل أفلام الرُّعبْ الحقيقيّة في التّاريخ العالمي

الأفلام الفنيّة هي نوعٌ مِن الأعمال المُستقلّة، الخلّاقة بجديّتها والهادِفة بمعانيها، والتي تحتوي على مواضيعٍ غير تقليديةٍ ورمزيةٍ للغاية، وغالباً ما تكون هذه النوعيّة مِن الأفلام تصبُّ في المَقام الأوّل لغاياتٍ وأسبابٍ تجريبيةٍ وجماليةٍ، بعيداً عن الربح التجاري والسّعي الدؤوب للحوذِ على قبول ذوق العامّة، وهي عادةً ذاتُ ميزانيّةٍ مُنخفضةٍ واللُغة الناطِقة بها تأتي ليست إنجليزيّةٍ، وتستهدف بشكلٍ رئيسيٍ الأسواق المُتخصّصة بدلاً مِن أسواق المُشاهد العادي.

بدأت موجة نمط الأفلام الفنيّة في أوروبا كردِ فعلٍ على باكورة صِناعة أفلام هوليوود الكلاسيكيّة، وتُوفّر الأفلام الفنيّة أنواعاً مُماثلةً للتأثيرات السينمائيّة الوهميّة التي يُمكن أنّ نجدها في أعمال هوليوود الكلاسيكيّة، ولكن يحدُث هذا مِن خِلال تخفيف العلاقة بين أسلوبِها وعِنايتها في سرد الأحداث، مِمّا يسمح بذلك زيادة الواقعيّة الذاتيّة والرؤية التعبيريّة لدى الكاتب.

- السينما التعبيريّة الألمانيّة:

مِن بين جميع أنواع الأفلام الصامِتة، نشأت حتّى بَرَزت السينما التعبيريّة الفنيّة الألمانيّة على الساحة الأوروبيّة في بدايات عام 1920، إبان الهزيمة التي ألمّت بالقوات الألمانيّة في الحرب العالميّة الأولى، وخضوع الأمة الألمانيّة تحت هيمنة الآلة العسكريّة والحكومة الأميركيّة، فسارعت تلك الأمة الجريحة نحوَ الفن لتُضمّد جِراحها وتواسي كربها وتنسى مآسيها.

تأثرت السينما التعبيريّة الألمانيّة لدرجة هائِلة وكبيرة بفنانيين عُظام مثل (فينسنت فان غوخ) و (إدفارت مونك) و (إل غريكو)، فكانت رافِضة للسيطرة التقليديّة لأفلام الغرب الأميركي بتلك الفترة الزمنيّة، ومُستنكرة تشويه الواقع الحاصل على نطاق واسع مِن أجل تحقيق تأثير عاطفي رخيص وفارغ، لتبدو لنا هذه السينما هي الأكثر تأريخاً وذكراً حتّى يومنا هذا، ويعود ذلك رُبما لِكون مُعظم صانِعيها ومؤسسيها قد هاجروا إلى الولايات المُتحدة وساعدوا بتشكيل جماليّة السينما الهوليووديّة.

كما كان التعبيريّون يولون إهتماماً بالِغاً بِخلق ردود فعل قويّة ضمن أعمالهم تتجلّى باستخدامهم للإضاءة الساطعة في تمازُج الألوان، والأشكال المُسطّحة، وضربات الفُرشاة الخشنة، أكثر مِمّا كانوا يولونه للناحية الإنتاجيّة الجماليّة في تراكيب أعمالهم، والحركة التعبيريّة في جوهرها كانت مُهتمّة بِبناء علاقة وطيدة بين الفن والمُجتمع، وشملت على مجموعة مجالات واسِعة بِما فيها، الهندسة المعماريّة، والرسم، والسينما.

ولِدت الأفلام التعبيريّة بِدايةً مِن رحم العزلة النسبيّة التي عاشتها ألمانيا خِلال فترة الـ1920، وعلى الفور سُرعان ما ذاع صيتُها وزاد الطلب عليها نظراً للحظر الذي فرضته الحكومة الألمانيّة آنذاك على الأفلام الأجنبيّة القادمة مِن الخارج، وانتشرت كالنار في الهشيم فيما بعد بين الجمهور العالمي، وبوقتٍ مُبكرٍ مِن عام 1920، باشر العديد مِن صنّاع السينما الأوروبيّة بتجريب الجماليّات الغريبة والجامِحة في السينما الألمانيّة، وأشهر تلك التجارب والأكثر تأثيراً بذلك العصر تمثّلت بفيلمين هُما (متروبوليس) 1927 مِن إخراج النمساوي "فريتز لانغ"، و(كابينة الدكتور كاليجاري) 1920 مِن إخراج الألماني "روبرت ووين".

وعلى غِرار اللوحات التعبيريّة، سعت دائماً الأفلام التعبيريّة على الولوج إلى داخل الصميم البشري، عن طريق الخبرات الشخصيّة المُتعلّقة بأصحابِها.

- (كابينة الدكتور كاليجاري) تحفة بصريّة وموضوعيّة:

أُنتج فيلم (كابينة الدكتور كاليجاري) في عام 1920، مِن إخراج "روبرت ووين" وتأليف "هانز جانوويتز" و"كارل ماير"، جميعهم خرجوا مِن تحت وطأة الحرب العالمية الأولى بِمرارة قويّة ضد حكومة امبراطورية تنتهج سياسة حرب شعواء، ليستخدم الكاتبين مُحيطهم الجديد القاسي لِخلق تحفة تعبيريّة استثنائيّة، مُنغمسة داخل تفاصيل مسرحيّة فريدة بتصميمها البصري وعروضها المُبهرة في الآن نفسه، لدرجة ستُشعرك معها وكأنّ الفيلم آتٍ مِن عالم آخر مُختلفاً تماماً.

يُعتبر الفيلم مِن أوائل أفلام الحركة التعبيريّة الألمانيّة، ومِن أكثرها إلهاماً ونفوذاً أثناء الحقبة الطليعية الأوروبيّة الفنيّة، ويُنظر إليه عادةً بإعتباره واحِداً مِن أنجح أيقونات أفلام الرّعب وأوّلها إنتاجاً في التاريخ، تاركاً بالتالي أثره في أجيال سينمائيّة لاحِقة، خصوصاً في أنواع أفلام الجريمة والرّعب على حدٍ سِواء، واللذان يُخاطبان بشكلٍ واضحٍ الازدواجيّة الداخليّة في العقل البشري أو حالة اللاوعي، فكثيراً ما يقفان هاذين الأمرين بغموضٍ تامٍ بين الجانبين المُشرق والمُظلم عِندَ الإنسان.

( الدكتور كاليجاري يُلقي نظرة فاحِصة على أحد مرضاه )

تدور أحداث قصة الفيلم حول رجل شاب يُدعى فرانسيس (فريدريك فوهير) وهو يروي لنا بذاكرته حكاية غريبة عن سلسلة جرائم وحشيّة وقعت في بلدة شمالي ألمانيا. في إحدى المرات فرانسيس وصديقه آلان (هانز هاينريش فون توردوسكي) يقومان بالسفر لزيارة مهرجان عروض، أحد فقرات تلك العروض يؤديها الدكتور كاليجاري (ورنير كراوس) بصحبه زميل عمله سيزار (كونراد فايت)، تتوالى المُجريات فيما بعد حتّى يتهم فرانسيس كُل مِن الدكتور كاليجاري وسيزار الذي يمشي أثناء نومه بأوامر مِن الدكتور، بخطف خطيبته جين (ليل دوفير)، وارتكابهما لجريمة قتل ليلاً بحق صديقه آلان، بعدها تتصاعد الأحداث كثيراً ويُلاحق فرانسيس بإصرار الدكتور كاليجاري إلى داخل مخبأه ويتواجهان هُناك، ثم ينتهي الفيلم بحبكة مُفاجئة لا يتوقعها المُشاهد أبداً وتُثير التعجّب والحيرة لدرجة كبيرة جداً.

- التمثيل والديكور والماكياج:

مِن الأمور التي فاجئت الجمهور داخل الفيلم هي طريقة إخراج وإعداد المشاهد بأسلوب غريب ومُميز، يُمكننا بوضوح رؤية مُحاولة عرض كافة خلفيات المشاهد مِن خِلال التعبير عنها باللوحات الفنيّة، كما صُنعت البيوت والجدران والطرقات مِن الورق بشكلٍ مائلٍ ومُشوّهٍ، ورُسمت ظِلال الشخصيّات على الجدران، أما مُحاكاة مناظر الطبيعة الخلّابة كالتِلال فشُيدت بنفس الطريقة التي تُستخدم بكثير مِن الأحيان على المسرح، والكراسي والنوافذ والمرايا كانت غير مُتماثلة أيضاً، فالطاولات والمقاعد بأحد المشاهد كانوا يبدون طِوال لحدٍ مُبالغ فيه، والسلالم والأبواب التي تستخدمها شخصيّات الفيلم كانت مُشوّهة لدرجة لا تمت للواقع بِصلة، وقام المخرج بوضع طلاء ذو درجات ألوان عالية على الجدران والأرضيات ببعض الحالات، مُحاولةً منه لتركيز حدّة الضوء على الشخصية الرئيسية الواقفة في المشهد للحفاظ على جذب نظر الجمهور نحوها بشكلٍ مُستمر.

( سيزار بطريقة مكياجه يُمهّد لهيئة الزومبي التي نعرفها اليوم في الأفلام )

زيادةً في أصالة وغرابة الفيلم، لمسات التعبيريّين الفنيّة لم تقتصر على إعداد المشاهد فقط، بل أمتدت لتصل إلى الماكياج والتمثيل، فشخصيّة سيزار على الأخص تميزت بأمرين، لون بشرة شاحب، ودوائر سوداء ضخمة تحت عينيه أعتُبرت لاحقاً معياراً أساسياً لمظهر الزومبي في أفلام الرعب، بالإضافة لصحوته البطيئة مِن نومه ورمقه للكاميرا بنظرة مُخيفة واسعة العينان.

في الختام، يجدر بنا الإشارة إلى أنّ مُكتشف نظرية التحليل النفسي طبيب الأعصاب النمساوي (سيغموند فرويد)، وصانعي الحركة الفنيّة التعبيريّة الألمانيّة، كِلاهُما قاما في تلك الحقبة بدراسة خبايا وأسرار طاقة العقل البشري الداخليّة والقوّة اللاواعية التي تُحفّز الإنسان بصمت للتحول مِن حالة الشر إلى الخير أو العكس .

المصادر :

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

مصادر الصور :

هنا

هنا