البيولوجيا والتطوّر > أسئلة شائعة عن نظرية التطور

الجزء الرابع - هل يمكن رصد ومشاهدة واختبار نتائج التطور؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

عندما يتم الحديث عن نظرية التطور فإن أحد الأسئلة التي تتكرر على مسامعنا كثيراً هي عن رصد ومشاهدة واختبار نتائج التطور، فما هي الإجابة على هذه التساؤلات؟ تابعوا معنا هذه السلسلة من المقالات علها تساعد في وضع الأمور في نصابها عن طريق تقديم الأجوبة العلمية على هذه الأسئلة وغيرها من أهم الأسئلة الشائعة عن نظرية التطور

ولقراءة الأجزاء الثلاثة الأولى من السلسلة من هنا و هنا و هنا

يعتقد العديد من الناس بأنه من غير الممكن رصد عمليّة التطور وملاحظتها. ولكن خلافاً للاعتقاد السائد، فإنّه يمكننا أن نشهد العديد من الأحداث التطورية، والمقصود بالمشاهدة هنا هو مشاهدة ورصد العديد من النتائج التي يتنبّأ بها التطور في المختبر وفي الظروف الطبيعية أيضاً، كما أننا نستطيع أن نرى بوضوح أنواع التغيرات المتوقعة فيما إذا اعتبرنا التطور حقيقة موجودة.

بالطبع لا يمكننا أن نرصد مراحل تاريخ تطور الحياة أو تاريخنا التطوري كبشر (على الأقل ما لم نُطوّر آلة للسفر عبر الزمن)، كما أن َّمشاهدة تحوّل الأنواع صعب جداً لكونه يتطلب عشرات بل مئات آلاف السنين للحدوث. كما أن ظهور أنواع جديدة أمرٌ نادرٌ إلى حدّ ما، وفي العديد من الحالات قد يستغرق قروناً من الزمن، إلى جانب أن العلماء لم يتفقوا بعد على أفضل تعريف لوصف النوع. حيث أنَ التعريف الأكثر استخداماً هو مفهوم "ماير" للأنواع البيولوجية، والذي يصف الأنواع بالمجموعات المعزولة عن بعضها تناسلياً، أي التي عادة لا يمكن أن تتزاوج خارج مجتمعاتها، عملياً يمكن لهذا المعيار أن يكون صعب التطبيق على الكائنات الحية المعزولة عن بعضها نتيجة بعد المسافة أو التضاريس أو النباتات، لذلك يلجأ علماء الأحياء عادة إلى الصفات الجسدية والسلوكية للكائنات كدلائل على انتمائها لأنواع مختلفة.

ومع ذلك، فإنَّ المنشورات العلمية لا تتضمن تقارير عن ظهور أنواع جديدة. فهل يعني هذا بأنَّ التطوّر غير حقيقي؟ أو أنّنا لا نستطيع اعتماد التطور كظاهرة موثوقة؟

والجواب: بالكاد نستطيع ذلك. فمن المهم أن نلاحظ أن النظريات بحد ذاتها لا يمكن إثباتها بل يتم اختبارها مراراً وتكراراً والتحقق من نجاحها في كل اختبار، والنظرية ليست مجرد فكرة عشوائية، وإنما تأتي بناءً على دعامات ودلائل علمية.

طريقة عمل النظرية بسيطة جداً: يجب أن تكون واضحة وتقدم تنبؤات قابلة للاختبار، كما يفضّل أن تملك حداً أدنى من الافتراضات الجديدة. ولهذا فإن الاختبارات التي يمكن أن تخضع لها ظاهرة التطور متنوعة إلى حدّ كبير: علينا ببساطةٍ أن ننظر إلى التوقعات التي قدمتها النظرية، ثم نقارنها بما نستطيع مشاهدته من عينات باستخدام أدواتٍ متعددة، منها الدراسات المورفولوجية، التشريحية، السلوكية، الوراثية، الجنينية، البيوجغرافية، البيوكيميائية، وكذلك الأدوات الجيولوجية والإحاثية لدراسة العينات المحفوظة. وبعد دراسة واختبار كل تلك الجوانب في شتى المختبرات ومراكز الأبحاث حول العالم، بإمكاننا القول أن التطور حتى الآن يمكن في ضوئه أن نقوم بتفسير أغلب ما نراه حولنا، بالإضافة إلى توقع نتائج جديدة كوننا نقوم بكشف طرق جديدة للاختبار.

فإن كنت ممن يعتقدون بأن التطوّر غير حقيقي أو أنّه لا يوجد أي إمكانية لرصد التطور، فهناك بعض الحالات التي يجب وضعها بعين الاعتبار وهذه بعض الأمثلة للاطلاع عليها حيث لا مجال لإيراد جميع الأمثلة:

في المختبر:

تعد ذبابة الفاكهة من الكائنات المخبرية الشائعة نظراً لقصر فترة حياتها، ولذلك يمكن رصد أجيالها بسرعة عن طريق مقارنة الأنواع الحية بأسلافها.

في عام 2008، نشرت دراسة مثيرة للاهتمام تتلخص بأنه تم تربية ذباب الفاكهة في بيئات ذات عوز أوكسيجيني بشكل مستمر وذلك لتطوير الذباب الذي كان أكثر تكيّفاً مع نقص الأوكسيجين. Hypoxia .

كانت بداية الاختبار بسيطة، حيث وضعت ذبابات الفاكهة العادية في بيئات ذات مستويات مختلفة من الأوكسجين. وفي أكثر المستويات حرماناً - كما يمكنك التوقع- فإن معظم الذباب قد مات قبل سن البلوغ، وفي مستوى 4% أوكسجين، لم يبقى أي من الذباب على قيد الحياة. لكن من جهة أخرى، وجد الباحثون أنَّ معظم الذباب تمكن من النجاة في نسبة 8% أوكسجين (مع العلم أن الغلاف الجوي يحوي ما نسبته 20% أوكسجين).

وانطلاقاً من ذلك، قاموا بتقليل كمية الأوكسجين بنحو 1% كل 5 أجيال، سامحين للذباب بالتكيف تدريجياً مع البيئات الأقل غنى بالاوكسيجين . وبعد ثلاثة عشر جيلاً، كان الذباب قادراً تماماً على العيش في بيئة 5% أوكسجين، وبالوصول إلى الجيل 32، كان الذباب قادراً على العيش في مناخ الأوكسجين القاتل 4% ! .

وقد تبين أن هذه الصفة وراثية أيضاً، اكتشف الباحثون ذلك عن طريق إخراج بعض الذباب من البيئة وإعادة إدخالهم إليها بعد عدة أجيال أخرى فتمكنت هذه الأجيال رغم ذلك من البقاء على قيد الحياة (في حين أن غيرهم من الذباب كان سيموت بسبب نقص الأوكسجين).

هذا تماماً ما قد نتوقعه إذا ما كان التطور حقيقة، وهذا دليل واضح على مبادئ التكيف والاصطفاء الطبيعي، ويعطي مصداقية لإدعاءات التطور.

في الطبيعة:

من الواضح بأننا لا نستطيع التحكم بالطبيعة لنرصد التطورات فيها، ولهذا فهي أكثر قابلية للتغير، ومع هذا مازال هناك بعض الحالات التي يمكننا أن نرى حدوث التطور فيها. أحد الأمثلة السهلة هو البكتريا، والتي تتكاثر بسرعة كافية تمكننا من دراسة التغيرات التي تحدث على مدى عشرات آلاف الأجيال.

من الأمثلة على التطور بكتيريا Staphylococcus aureus المقاومة للميتسلين Methicillin ، والمعروفة باسم MRSA.

هذه البكتريا يعود أصلها إلى مجموعة متنوعة طبيعية تماماً من المكورات العنقودية. لكن نظراً لمعالجتها بالبنسلين على نطاق واسع، قامت بتطوير مناعتها ضده، وبعد توقف جدوى البنسلين، تم استبداله بالميتسلين للقضاء عليها. لكنها تكيفت ثانيةً واكتسبت مقاومة أكبر.

أصبحت MSRA الحديثة مقاومة للمضادات الحيوية، بحيث لم يتبقى الكثير لفعله في مواجهتها بدون الإضرار بالشخص المصاب. ثم راقب الباحثون مستعمرات MSRA والتي عادت مرة أخرى لتطور مقاومتها ولكن للفانكومايسين vancomycin هذه المرة،وهو واحد من المضادات الحيوية القليلة التي ما زالت فعالة ضد MSRA.

إلى جانب هذه التطورات المثيرة والمقلقة على حد سواء، شهدنا أيضاً أنواعاً أكبر حجماً تتطور في حالات مختلفة. وكمثال على ذلك، بعوضة نفق لندن London Underground Mosquito أو المعروفة باسم Culex pipiens molestus ، لا يمكننا تحديد الزمن بدقة، لكن يبدو بأن هذه البعوضة قد ظهرت في أوائل القرن العشرين. للوهلة الأولى، قد تعتقد أن هذه الأنواع قد تكيفت للعيش تحت الأرض فقط، لكن الفرق بين العيش فوق وتحت الأرض هائل بالفعل، فالبعوض الذي يعيش على الأرض وهو أصل للنوع الآخر (الذي يعيش تحت الأرض) يدخل في السبات الشتوي، يلدغ الطيور فقط، ويكون مقاوماً للطقس البارد، أما النوع الذي يعيش تحت الأرض، فينشط على مدار العام، يلدغ الثديات (لتشمل الكلاب، الجرذان والبشر) كما أنه غير مقاوم للبرد.

لكن الأمر لا يتوقف على السلوك المختلف تماماً لهذين النوعين، بل أصبحا متغايران وراثياً لا يمكن حدوث تزاوج بينهما، بالإضافة إلى أن تسلسل الأليلات أصبح مختلفاً أيضاً.

وبعد القيام بأبحاث عديدة، خرج الباحثون بنتيحة تفيد بأنه على الرغم من الأصل نفسه إلا أن النوعين الآن مختلفان تماماً. ولكن لماذا حدث هذا؟ إنه مبدأ من مبادئ التطور، فقد انفصلت الجماعة الأصلية إلى بيئتين مختلفتين كثيراً، وبعد وقت طويل على ذلك تغير مسار الجينات وأعطى التكيف نتيجتين مختلفتين.

ما سبق ذكره بعض الأمثلة التي تدل على أن الباحثين استطاعوا رصد بعض حالات التطور، وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، فالتطور عبارة عن شجرة لا بشكل السلّم، ونحن لسنا سوى ورقة من أوراق هذه الشجرة، نشترك مع كل الكائنات الأخرى بالحياة على هذه الأرض.

هنا

هنا