الفنون البصرية > فن وتراث

شقيقةُ النَّوْفرة بنسختها المصرّية، مقهى الفِيشَاوِي

القاهرةُ الفاطميّة، حيُّ الأزْهَر، في أحد الأزقّةِ المُجاورةِ لمسجدِ الحُسين، يقعُ مَقْصَدُنا، مقهى الفيشاوي .

رجلٌ بسيطٌ يُدعى "الحاج فَهمي الفيشاوي" ( الجَدّ ) منذ حوالي القرنينِ والنّصف، قام بإنشاءِ مقهى صغير هو "مقهى الفيشاوي" اليوم.

بدايةً، اقتصر المقهى على استقبالِ أصدقاءِ الحاج فهمي وبعض المُصليِّن الخارجين من المسجدِ بعد قضاءِ صلاة العِشَاء، ومع مرورِ الأيّام تمكَّن العمُّ فهمي ( الحفيد ) من شراءِ المتاجر المجاورةِ لهُ وتوسيعه شيئاً فشيئاً حتّى أصبح مقهىً كبيراً بحُجراتٍ ثلاث .

نَذرَ الحاج فهمي الفيشاوي عُمره بأكملهِ على هذا المقهى، كما نقولُ نحنُ السُّوريون " ربّاه كلّ شِبر بندرْ " حتّى أصبح اليومَ أيقونةً تاريخيةً وتُراثيةً نادِرة .

صدر في الستّيناتِ من القرنِ الفائت قرارٌ من مُحافظة القاهرة بهدمِ جُزءٍ من المقهى بحُجّةِ تحديدِ معالم الحُسين القديمة، ورغم محاولاتِ النّاس والأهالي والصُّحف المصريّة العديدة، إلا أنّها كانتْ جميعها عديمةَ الفائدةِ أمامَ قرارِ الحكومة وقامتْ بهدم جزءٍ كبيرٍ منهُ (حوالي الثُّلثين من مساحتِهِ)، ممّا كان سبباً لوفاة الحاج فهمي إثر تأثُّرهِ بصدْمتِه بهدم ذلك المكان الذي شكَّل جزءاً من روحِه وكيَانه .

الجميلُ في هذا المقهى، أنّه قد استقبلَ العديدَ من مشاهيرِ الفنِّ والأدب، القديمِ والمُعاصر، والعديدِ من رؤساءِ الدُّول وأعضاءِ جامعةِ الدّول العربيّة والوزراء والعائلاتِ المصريةِ الكبيرةِ والمرموقة .

أما عن الفنّانين فـ أغلبُ فنانيّ مِصْر بلا استثْناء قد جَلسوا هُنا ونذكر منهم (أُم كُلثوم – محمّد عبد الوهّاب – عبد الحليم حافظ – فريد الأطرش – فاروق الفيشاوي – ليلى علوي – نور الشّريف – محمود عبد العزيز – أحمد حلمي – منى زكي – أحمد السّقا – محمّد هنيدي، وغيرهُم الكثير) .

موقعُ مقهى الفيشاوي في حيِّ "خان الخليلي"، الطّابعُ الفاطميُّ الّذي اتّسمَ به، و انعزاله عن زَخَم الحياة الدُّنيوية وصراعاتِ البشر الدّائمة، جعلوا منهُ مكاناً يعبقُ بتاريخِ الأجداد وحُبّ الأحفادِ للحياة، يُشبه قلادةً مُعتّقةً من الفضّة تحوي في وسطها حجراً كريماً وثميناً هو الطِّيبةُ والدّفءُ والطّبيعة الشّعبية الّتي اتّسم بها، ولعلَّ أبرزَ الأشياءِ التي أكسبتْهُ هذا الطابع هي توزّعه في ثلاثِ حجراتٍ مُذهلة :

الأولى، هي غُرفة «البَاسفور» وهي مُبطّنة بالخشب المُطعّم بالأبنوس، فضلاً عن المرايا المُذهَّبة، وهي مليئةٌ بالتّحف والكَنَبِ العربيّ المكسوِّ بالجلد الطّوبي، وأدواتها من الفضة والكريستال والصِّيني، وكانتْ مُخصصة للملك فاروق، آخر ملوك أسرة محمّد علي، في رمضان، وكبار ضيوف مصر من العرب والأجانب .

وثاني الغُرف أُطلِق عليها «التُّحفة» وهي اسمٌ على مُسمّى، مُزيّنةٌ بالصّدف والخشبِ المُزركشِ والعاج والأرابيسك والكَنَب المكسوّ بالجلدِ الأخضرِ وهي خاصّةٌ بالفنّانين .

أمّا أغربُ الحُجرات فهي حجرة «القافِية»، أكبرُ غُرف المقهى يَرجِع تاريخها إلى العصر التُّركي، تحتوي على مرآةٍ ثُلاثيّةٍ فريدةٍ وساعةِ حائطٍ كبيرة إلى جانبِ "راديو" أثري، ونَجَفَة (ثُرَيَّا) ضخمة تَعتلي الحُجرة يرجعُ تاريخها إلى عام 1800م . لا يستطيعُ أحدٌ دخولَ هذه الغرفة إلاّ منْ اعتاد التّردُّد عليها أمثال ( الأديب نجيب محفوظ والعندليب والسّياسي عمرو موسى )، تلك التُّحف الأثريّة جعلتْ منها واجهةً تاريخيةً في أكثرِ أحياءِ القاهرة شعبيّةً.

يُذكر أنّه من أجملِ طُقوس ذلك المَقهى، هو طقسُ يومِ الخميس من كُلِّ شهرٍ وخاصّةً في الأيّام الرّمضانيّةِ، حيث كانتْ تُقامُ حلقاتٌ من المُنازلَةِ الكلاميَّةِ بالشِّعر والأدبِ السّاخِرْ، يجتمعُ فيها العديدُ من الأشخاصِ من مُختلف المناطق، و المُنتصرُ فيها هوَ أكثر المُتبارينَ قُدرةً على الاسترسال والمُتابعة مُستحوِذاً على إعجابِ وشَغَفِ جُمهورِ المَقهى.

لمْ يُفرِّق مقهى الفيشاوي بين صغيرٍ وكبير، بين مصريٍّ وسائحٍ عربيّ أو أجنبي، تدخلُ إليه فتَنْعمُ برؤيةِ ذلك الجمالِ المُعتَّق الأصيل، كبارٌ في السنِّ يرتادونَه للقراءةِ مثلاً، بعضُ المجموعات الشبّابيّةِ تَعزفُ المُوسيقى وتُغنّي أجملَ تراثٍ قديم، عِطْرُ الخشب الدّافئْ، المناضدُ المُستديرة وعليها أكوابُ شايٍ وأوانٍ معدنيّةٍ، ولَمسةٌ أخيرة هي تلك المصابيحُ الفانُوسيُّةُ الشّكلِ لتَكتمل بها تلك الّلوحة الفنيّةُ الجميلة، تُشبه بجمالِها زيارةً حميميّةً لبيتِ الجدّ والجدّةِ القديم، واجتماعِ العائلةِ بأسْرِهَا على كوبِ شايٍ من عَبَقِ الماضي .

يمرُّ الزّمانُ وقهوةُ الفيشاوى قابعةٌ في مكانها كشاهدٍ على العصرْ، فهنا عاش الجدُّ والابن، ومن هنا مرّت الثّوراتُ، و عُقِدَت الحَلَقاتُ الثّقافية الّتى نَظَمَها الرُّواد، وعلى كراسِيها كتبَ الأُدباء ونظموا شِعْرهم، وهنا، وفقط هُنا اختلطَ الماضي بالحاضر بصورةٍ حضاريّةٍ .

يقول "ضياءْ" حفيدُ الحاجّ فهمي الفيشاوي :

(هوَ الأثرُ الّذي لا يقلُّ في امتداده التاريخيّ عن الأهرامات، ويحملُ في جوانِبِه أسرارَ رُوّاده الرّاحلين من عباقرةِ الفنِّ والأدبْ ) .

و قد لفتَ نّظري عيّنةٌ بسيطةٌ من بعض ما قالَه أحد السُّياح بعد مرورِه على نَغَمِ هذا المكان السّاحر :

(مرّةً قدمْتُ لزيارةِ المقهى مع أقاربي، أحدُهم كان يعزفُ الإيقاعَ على "الدِّرْبكَّة" هيَ شيءٌ أشبه بالطّبل، والآخرُ كان يعزِفُ "الغيتار"، أَمْضَينا ليلةً رائعة، نُغنّي ونشربُ الشّاي، إلى أنْ جاء رجلٌ مُسنٌّ وبدأ يعزِفُ على الفلُوْت ... )

مجموعة من الصّور الداخليّة للمقهى :

المصادر مجموعة من المواد الصحفيّة والمُقابلات .