كتاب > الكتب العلمية

مراجعة كتاب (الجينوم): السيرة الذاتية للأنواع

ضع الخوذة من فضلك، وعدِّل كرسيك لتناسب جولتنا العلمية التي يطلق الدليل فيها صفارته للتوقف عند العديد من المواقع المثيرة في الخريطة الوراثية البشرية (الجينوم كاشفاً الكثير من الأسرار لما تقوله لنا عن أنفسنا، والمزيد عن تطورنا وطبيعتنا وعقولنا.

نحن نقف على حافة التوصِّل إلى إجاباتٍ جديدة عظيمة، بل أكثر من ذلك التوصل إلى أسئلة جديدة عظيمة، وهذا ما حاول «مات ريدلي» تفصيله في هذا الكتاب مازحاً متحدياً القارىء بقوله :" لك أن تسخر من حماسي إن شئت، وأن تعتبرني مادياً مضحكاً عندما أُكرِّس كل هذا الحماس لمجرد عدد من الرموز المختصرة. ولكن هيا معاً لتتبعني في رحلةٍ نعود بها إلى الأصل الأول للحياة، وآمل أني سأتمكَّن من إقناعك بما لهذه الكلمة من سحر خلاب هائل".

من خلال هذه الجينات محدودة المهمة، يصحبنا ريدلي في رحلةٍ شيقة بأسلوب حماسي سلس، ليروي لنا السيرة الذاتية لنوعنا البشري، والصلة بينه و بين أسلافه، والجينات المشتركة بينه وبين الأنواع الأخرى القريبة له، كما يتناول مسائلاً هامة تتعلق بنواحٍ عديدة من حياتنا، البعضُ منها غريبٌ ومحزن في آن معاً، كبعض الأمراض الوراثية الغريبة التي تصيب الإنسان، وبعضها الآخر أكثر إثارة كالدور الذي لعبته هذه المورثات في الكشفِ عن العديد من الجرائم الغامضة، وبعضها الآخر طريف كالسبب في أن الأوروبيين والبدو يفضلون الحليب على الجبن، بينما يفضلُ العديد من المجتمعات الأخرى الجبن نفسه، مروراً بالعديد من المسائلِ الأشد خطورة كالخلود، والشيخوخة والموت والمرض والذكاء والشخصية والإرادة الحرة والطبع والتطبع وغيرها الكثير من المعلومات المهمة والغريبة في آن معاً.

هكذا سجَّـل ريدلي صبغياتِ النوع البشري الثلاثة والعشرين، وقسَّمها في ثلاثة وعشرين فصلاً، واضعاً بجانب كل منها قائمة بموضوعاتٍ عن الطبيعة البشرية مستخدماً أسلوباً مبسطاً يناسب مستويات الناس المختلفة، ومحاولاً قدر الإمكان تجنب استخدام المصطلحات التقنية، ودمج المعلومات الهامة والقصص المصاحبة لها عبر التاريخ حتى اكتشاف «الخريطة الوراثية البشرية» مستخدماً العديد من الاقتباسات اللافتة لعلماء وكتاب وشعراء ورجال دين بما يخص المواضيع الشيقة المطروحة في فصول هذا الكتاب.

يبدأ ريدلي بتمهيدٍ مبسط للتعريف بمعنى الجينوم (الخريطة الوراثية البشرية) ومكوناته وأهميته والكيفية التي تنتقل فيها المادة الوراثية من جيل إلى آخر، ثم ينتقل للغوص في دور المادة الوراثية في الحياة، ودور العلماء في المراحل التي تعاقبت وساهمت في اكتشاف المادة الوراثية للنوع البشري بدءاً من التساؤلِ المذهل للشاعر والطبيب «إيراسموس داروين» في عام 1794، حول إمكانية وجود نوع واحد من الخيوطِ الحية نفسها كان ومازال هو السبب في الحياة العضوية، وفكرة أرسطو أن: «مفهوم الدجاجة متضمن في البيضة»، مروراً بالتركيب الكيميائي للمادة الوراثية.

ثم يتناول ريدلي نظرية التطور التي طرحها داروين، مبيناً تطور النوع البشري ودور المورثات في الكشف عن مراحل هذا التطور ومدى التشابه والاختلاف بين المادة الوراثية للنوع البشري والمادة الوراثية لأسلافه من القردة العليا، وكيف تكيف مع الظروف المحيطة والبيئات التي عاش فيها وصولاً إلى هيئته ووظائفه الحيوية الحالية، من وجهة نظر العديد من رجال الدين والعلماء المدافعين والمعارضين لهذه النظرية وتجاربهم وخلافاتهم بما يخصُّ أصل الإنسان.

ويعودُ ريدلي ليروي لنا قصصاً شيقة عن تاريخ الجينوم لكن هذه المرة من وجهة نظر الحياة الخاصة للعلماء وظروفهم وتجاربهم التي ساهمت في اكتشاف و تطورِ مفهوم المادة الوراثية كالعالِم «فرنسيس كريك» الذي تنسبُ له العبارة الشهيرة: " لقد اكتشفنا سر الحياة"، إشارةً إلى اكتشافه لتركيب الـ(DNA) مع زميله «جيمس واطسون»، والذي اعتُبر للأسف إنجازاً متواضعاً مقارنة بالضجةِ الإعلامية التي نالتها البعثة التي وصلت قمة إفريست في ذات العام، في حين اعتبره معظم العلماء فيما بعد أخطر اكتشاف في القرن إن لم يكن في الألفية كلها.

ويحتلُّ مصير الإنسان من وجهة نظر العديد من الأمراض الوراثية الهامة والغريبة، والت كانت سبباً في معاناة الكثير من العائلات الكبيرة، جزءاً هاماً من الكتاب، والجدلية في التنبؤ بإمكانية الإصابة بهذه الأمراض وانعكاسها على الأجيال المتلاحقة في العائلات التي تتوارثها، والطرق التي استخدمت علم الوراثة في الوقاية والعلاج للعديد من الأمراض الوراثية الأخرى، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه كل من البيئة والمادة الوراثية في مفهوم الذكاء والذاكرة والقدرة على تعلم اللغة، والدور الذي قد تلعبه المورثات في عادات وتقاليد الشعوب متناولاً العديد من الاختبارات والتجارب الغريبة التي قام بها العلماء لإثبات فرضياتهم المختلفة.

هنا عليك أن تأخذ نفساً عميقاً تمهيداً للدخول في رحلة الصراع بين صبغيي الجنس (X .Y)، فقد اعتدنا أن نفكر في المورثات على أنها جزءٌ يخدم هذا الجسد لكن من المدهش كما يوضح ريدلي أن الجسم هو الضحية والألعوبة وميدان المعركة ووسيلة لنقل طموحات المورثات- هذا ما تناوله «ريتشارد دوكنز» في كتاب علمي رائع آخر بعنوان «الجين الأناني»، لك أن تطلع على فكرة عنه في موقع الباحثون السوريون ( هنا )-

فالجينوم هو ميدان لمعركة بين المورثات الأبوية والمورثات الطفولية من جهة وبين المورثات الذكرية و الأنثوية من جهة أخرى.

ولكَ عزيزي القارىء أن تقفَ دقيقة صمت عند الفصل (22) حزناً على الأفعال المشينة التي اتبعتها العديد من الدول تحت ستار «تحسين النسل»، حيث يتحدثُ ريدلي في هذا الفصل حول الجانب المظلم في ماضي الوراثيات والقتل والتعقيم والإجهاض الذي طبق على الكثير باسم النقاء الوراثي.

ويختتمُ ريدلي فصولَ الكتاب بعدة تساؤلات هامة: من أنا؟ وماذا تعني الإرادة الحرة؟ وما هي الفرضيات التي تدعم أطراف الصراع بين الحتمية الوراثية والبيولوجية من جهة والإرادة الحرة من جهة أخرى ودور كل منها في سلوك الإنسان.

ما يميزُ هذا الكتاب الأسلوب الرائع الذي استطاع ريدلي من خلاله دمج السيرة الذاتيه للمادة الوراثية البشريه مع أهم العلماء المساهمين بها من خلال الوقوف عند محطات علمية وقصص ممتعة وغريبة تتعلق بكل صبغي، إضافةً إلى روح الفكاهة التي يملكها ريدلي حين يتحدى القارىء تارةً، ويخترع جيناً تارة أخرى بقصد إيصال فكرة يوضحها فيما بعد.

وعندما بدأت كلامي بقولي «ضع الخوذة من فضلك» لم أكن أثير الحماس فقط، وإنما كنت أنقل شعوري الخاص خلال الأيام التي صاحبت بها هذا الكتاب! أن تغلقَ المركبة وترتدي الخوذة وتبدأ المغامرة الشيقة، أن تبتسمَ تارة وتدهش تارة أخرى خلال أوراقه وفي كل تفصيل فيه، وحين يتوفر هكذا كتاب بهذه القيمة وبكل هذا الحماس مترجماً إلى اللغة العربية، فهو متعةٌ علميةٌ وفرصةٌ لا تعوَّض.

معلومات الكتاب:

ﺍﻟﻋﻨﻮﺍﻥ ﺍﻟﺄﺻﻠﻲ ﻟﻠﻜﺘﺎﺏ :GENOME / The autobiography of a species

ﺍﻟﻜﺎﺗﺐ : Matt Ridley

ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ : ﺍﻟﺠﻴﻨﻮﻡ

ﺗﺮﺟﻤﺔ : د.ﻣﺼﻂﻔﻰ ﺍﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻓﻬﻤﻲ

ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻨﺸﺮ : ﻣﻂﺎﺑﻊ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻪ / ﺍﻟﻜﻮﻳﺖ

ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻨﺸﺮ : ﺗﺸﺮﻳﻦ ﺛﺎﻧﻲ /2001