البيولوجيا والتطوّر > أسئلة شائعة عن نظرية التطور

الجزء الثالث - كيف تتطور الأنظمة الحيوية المعقدة - التعقيد غير القابل للاختزال

استمع على ساوندكلاود 🎧

عندما يتم الحديث عن نظرية التطور فإن أحد الاسئلة التي تتكرر على مسامعنا كثيراً هو عن تعقيد الأنظمة الناتجة عن الانتقاء الطبيعي، لدرجة يبدو أنها لا يمكن أن تكون نشأت بالتدريج، فبسبب تعقيدها يستحيل اختزال جزء منها فكيف نشأت؟ تابعوا معنا هذه السلسلة من المقالات علها تساعد في وضع الأمور في نصابها عن طريق تقديم الأجوبة العلمية على هذا السؤال وغيره من أهم الاسئلة الشائعة عن نظرية التطور، وللإطلاع على المقالين الأول والثاني من هذه السلسلة من هنا و هنا

دعونا نوضح السؤال قبل أن نجيب عليه:

تخبرنا نظرية التطور أن الكائنات الحية معقدة التركيب الموجودة اليوم قد تطورت عن كائناتٍ أخرى أقل تعقيداً، وبما أن تعقيد الكائنات الحية يزداد عن طريق إضافة أجزاء أو وظائف أخرى إليها (عن طريق الطفرات مثلاً)؛ فبناءً عليه يطرح من يتبنى هذا السؤال التحدي التالي:

كما أن الكائنات تطورت بإضافة أجزاء ووظائف جديدة فإنه نظرياً يجب أن نتمكن من العودة خطوةً إلى الوراء في المسار التطوري بأن نزيل الجزء المضاف، ويجب على الكائن الحي عندها أن يبقى قادراً على القيام بمهامه الحيوية، فإذا كانت الرئتان قد ظهرتا مثلاً عندما خرجت السمكة الرئوية من الماء، يجب أن يكون صحيحاً أننا إذا أزلنا رئتي السمكة ستصبح أقل تعقيداً لكن قادرةً على الحياة والقيام بالوظائف الحيوية كما كانت قبل ظهورهما!

وبما أن هذا لا يحدث، يفترض من يطرح هذا السؤال أن هذا يؤدي إلى أن نظرية التطور ليست صحيحة.

وهنا ولتوضيح فكرة الأنظمة المعقدة سنطرح مثالاً من خارج البيولوجيا، وهو مصيدة الفئران؛ فهي مؤلفة من عدة أجزاء (قطعة خشبية، نابض، ملقط معدني، قطعة جبن...) في حال أزلنا أي جزءٍ منها فإن باقي الأجزاء لا قيمة لها على الإطلاق، لن تعمل المصيدة إلا بوجود كامل أجزائها مجتمعةً مع بعضها في أماكنها.

مثال آخر على النظام غير القابل للاختزال هو القوس الحجري الموضح بالصورة أدناه، إن قمت بإزالة أيّ حجرٍ منه فسينهار تماماً أليس كذلك؟، إذاً فالقوس والمصيدة أنظمة غير قابلة للاختزال وكذلك هي الكائنات الحية.

هذا ما يُسمى بحجة "التعقيد غير القابل للاختزال" وتنص هذه الحجة على أن الأنظمة المعقدة لا يمكن أن تعمل عند إزالة أحد أجزائها، ولذا لا يمكن لهذه الأنظمة أن تكون قد تشكلت بالتطور التدريجي بل إنها لا بد أن تكون قد وجِدَت كما هي بشكلٍ فوريّ لا على مراحل، والكائن الحي مثالٌ على هذه الأنظمة. فما هو الرد على ذلك؟

في الواقع، فهذه الحجة كغيرها مما سبق تحتوي على جهلٍ بخصائص التطور بالانتقاء الطبيعي، فإن التطور لا يشمل فقط إضافة أجزاءٍ جديدة بل يتضمن تعديلاتٍ على الأجزاء الموجودة، وكذلك التخلي عن بعض الأجزاء التي لم يعد لها فائدة، وبهذه الطريقة يمكن في الطبيعة التوصل إلى أنظمة معقدةً بشكلٍ غير قابلٍ للاختزال.

وليتضح الأمر أكثر لنعد معاً إلى مثالنا: القوس الحجري غير القابل لاختزال أو حذف أيّ حجرٍ منه. كيف أمكن لهكذا قوسٍ أن يتمّ بناؤه بالتدريج؟ هل بدأ البنّاء من الطرف الأيمن أم الأيسر؟ وكيف استطاع أن يبني ولو عدّة أحجار منه بدون الاستناد على الأحجار جميعها معاً؟ يبدو هذا مستحيلاً أليس كذلك؟ إذاً لا بدّ أن القوس قد صُنِع مباشرة كنظامٍ كاملٍ ولم ينشأ بالتدريج.

أعتقد أنّ إجابة الحجة المطروحة أصبحت في متناول القارئ الآن! فما سبق استنتاجه عن القوس ليس صحيحاً على الإطلاق، فبإمكانك أن تبني نظاماً غير قابلٍ للاختزال عن طريق إضافة وحذف مكوناتٍ إضافية إليه، والقوس الذي تحدثنا عنه يتمّ بناؤه عن طريق وضع دعاماتٍ تستند عليها الأحجار ثم يتم إزالتها في مرحلة لاحقةٍ حين لم يعد لها وظيفة وفقاً للصورة أدناه.

الآن، بعد إزالة الدعامات، في حال فكرنا بإزالة القطعة الحجرية العلوية من القوس، فإنه (تماماً مثل الكائنات الحية التي يريد من يطرح هذه الحجة أن يختزل أحد أجزائها) لن يكون قادراً على تأدية وظيفته وسينهار، وهو مثالٌ عن النظام المعقد غير القابل للاختزال والذي ظهر بشكلٍ تدريجي عن طريق استخدام أجزاء إضافية وإزالتها حين تصبح زائدة عن الحاجة.

والآن، اتركوا هذا المثال غير البيولوجي، ولننطلق إلى أمثلةٍ حيوية مثل آلية السباحة لدى وحيدات الخلية:

تمتلك العديد من الكائنات الحية أحادية الخلية كالميكروبات أهداباً تبرز من جسمها الخلوي، تعمل هذه الأهداب كمحركاتٍ حيوية تجعل الخلية تسبح داخل الماء وحتى أنها قد تتحرك على الرمال في بعض الأحيان. وهنا قد يسأل البعض، ألا يجب أن تتوافر كافة أجزاء هذا المحرك الحيوي لكي يعمل؟ من خلايا على شكل استطالات إلى عضياتٍ تنتج الطاقة للحركة وآلياتٍ حسية لتفحص المحيط وغيرها. وبما أنّ نظاماً بهذا التعقيد لا يمكن أن ينتج بقفزةٍ واحدة عن طريق طفرة مثلاً، إذا كيف ظهر بالتدريج وهو –كما أسلفنا- لا يعمل إلا باكتمال أجزائه؟

والإجابة تكمن في أنه قد تمت إضافاتٌ تدريجية على وظائف هذا العضو إلى أن وصل إلى ما هو عليه، فهو لم يكن دائماً مخصصاً للحركة بل ربما بدأ كشيءٍ آخر –مفيدٍ أيضاً للكائن- ثم انتهى به الأمر بعد تراكم التعديلات المفيدة ليكون على ما هو عليه الآن. فبعض الكائنات الحية تمتلك أهداباً حركية أبسط من غيرها، وتمتلك بعضها استطالاتٍ بسيطة تهدف فقط لتحسس البيئة، وبعضها الآخر للاتصال مع خلايا أخرى، أو إيجاد الطعام أو حقن المواد السامة في خلايا أخرى، ففي بيئة مائية قد تبدو الحركة هي الأكثر فائدة من الناحية التطورية، وفي بيئةٍ أخرى قد تكون وظيفةٌ أخرى للهدب هي الأفضل وهكذا بالنسبة لباقي أجزاء الكائن الحي.

من الأمثلة التي يتم طرحها باستمرار في نفس المجال واعتبارها نظاماً غير قابل للاختزال هي "العين"، وبرغم وجود الشرح العلمي الوافي الذي يفسر كيفية نشوء هذا العضو بالتدريج وبالمقارنة مع أجزاء بصرية بسيطة موجودة لدى كائنات معاصرة، يتكرر طرح هذا المثال كثيراً، وسنفرد مقالاً قريباً لنشرح لمن لا يزال يتساءل عن كيفية تطور العين.

وهكذا نرى بأن "الأنظمة المعقدة غير القابلة للاختزال" ليست دليلاً ضد التطور، بل أن بإمكان آليات الانتقاء الطبيعي تفسير كيفية ظهورها التدريجي بما يتوافق مع النظرية. وعند الإجابة عن هذا السؤال يجب علينا أن نضع في الحسبان أن هدف أي مكونٍ من مكونات الكائن الحي، هدفه هو مساعدة الكائن في أن يعيش لينمو وبالتالي يتكاثر، وأنّ أي مكوّنٍ حين يكتسب وظيفة جديدة أكثر فائدة للكائن من الوظيفة السابقة، فإنه قد لا يحافظ على الخصائص والإضافات التي لم يعد لها فائدة لأنها تعني هدر طاقة الكائن وغذاءه على ما لا ينفع، لذا تطرأ التعديلات من حذفٍ وإضافةٍ وتعديل على هذه الأنظمة عبر الأجيال المتتالية إلى أن تأخذ شكلاً جديداً مفيداً في كلّ مرة، وهكذا تستمرّ مسيرة التطور المتجددة دائماً.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا