الفنون البصرية > فن وتراث

الماتريوشكا

وُلدتْ أوّل "ماتريوشكا"، الدمية الروسية، عام 1890 في مَشغل تعليم الاطفال الّذي يملكُه صانعٌ وراعٍ للفن يُدعى "سافا مامونتوف" في ولاية ابرامتسيفو في روسيا، وفي نهاية القرن التاسع عشر، حدثتْ تطورات اقتصادية وثقافية هائلة، وسيطرتْ على مامنتوف فكرة خلقِ أُسلوب فني روسي جديد، وعمل مع عدّةِ فنانين وحرفيّين على تنفيذ هذه الفكرة.

كانت اللُّعبة آنذاك تتألفُ من سبعةِ تماثيلَ مُتداخلة، وفي أحدِ اجتماعات السبت التقليدية التقى مامنتوف رجلاً عجوزاً ياباني طيِّب وأصلعُ الرّأس يدعى "فوكوروما"، واستوحى منه هذا الشكل.

وفي رِوايةٍ أُخرى، يُحكى أنّ هذه الدُّمى الخشبية كانت معروفة سابقاً، وقد قام بإحضارها راهبٌ روسيّ غير معروف إلى جزيرةِ هونشو اليابانية (حيثُ صُنعتْ فوكوروما).

في مشغل مامونتوف، كان الفنان "سيرجي ماليوتن" مفتوناً بدُمية فوكوروما، وقرّر أن يصنع نسخةً جديدة بهويّةٍ وروحٍ روسيّتين، وطلب من حِرفي يُدعى فاسيلي أن يصنع القطعةَ الأُولى من خشبِ linden الطّريّ.

يستعمل الخرّاط عادةً مواد خشبية، ويترك حلقاتٍ من اللّحاء ليمنع تشقُّق الخشب حين يجفّ، يُقطَّع الخشب عادة في بدايةِ الربيع، ويُنظّف من اللحاء، من ثمّ تُجمع قطع الخشب في أكوام بشرطِ أن يُسمح بمرور الهواء، وتُتركُ في مكانٍ مفتوح فترة طويلة لتجفّ بطريقةٍ صحيحة، ولا يستطيعُ سوى الخبير أن يُحدّد جاهزيّة المواد، وعندما تصبح جاهزة، تُقطّع قضبان الخشب وتخضع ل 15 عملية على يدِ الخرّاط قبل أن تُصبح دميةً جاهزة.

قام ماليوتن بصُنْع وتلوين تصاميمه الخاصة، جسَّدت الدمية الأولى عائلةً من الفلاحين، أُمٌّ مع أطفالِها السبعة وتتألف من ثمانِ قطع، وقد عُرضتْ مع دمىً أُخرى في متحفٍ خاصٍّ للدُّمى، حيث يمكن رؤية العديد منها وحتى الرُّوسي القديم مثل ( رجل عجوز ) وهي مجموعةٌ من 8 قطع وأيضا ( حكايةُ نبتة لِفتْ ).

لماذا سُميَّت ماتريوشكا بهذا الاسم ؟

يُعتقد بأنّ الاسم جاء من "ماتريونا" أو "ماتريوشا"، وهو اسمُ فتاةٍ معروف بين الفلّاحين ويعني "الأم" وفيه جذر لكلمة لاتينية "Mater" .

ولهذا ترافق الاسم مع أُمٍّ وعائلةٍ قروية كبيرة وبصحّة جيدة، وأصبح رمزاً واستُخدم بشكل دمى صغيرة ذات ألوان برّاقة توضع الواحدة منها داخل الأخرى.

أُسلوب "سيرجييف بوساد" :

بعد التسعينيّات من القرن التاسع عشر انتقل مشغل الدُّمى إلى بلدةِ سيرجييف بوساد قرب موسكو، وهنا صنعت الماتريوشكا الأولى.

أسّس الراهب "سيرجيوس" عام 1340 معبداً صغيراً وسط الغابات الكثيفة، ثم تطوّر مع الوقت ليُصبح أكبر دير في روسيا.

ازدهرتْ المهن اليدوية حول الدير بسبب وُفود السيّاح والحجّاج واشتهرتْ الألعاب الخشبية التي كانت معروفة حينها باسم"الثالوث"، وتقول حكايةٌ قديمة أنّ أول دمية ثالوث صُنعت قبل وجود دير سيرجيوس حيث كانت المنطقة تشتهر بروعة ألوانِها، لكنّ الدير اكسبها خصوصية مُعيّنة، وبعد أن غصّ المكانُ بالزّوار والتجار والحجاج والرّهبان، استغلَّ تُجار سيرجييف بوساد شهرةَ الدُّمية الغريبة الملونة "ماتريوشكا" وصنعوا نسخاً ناجحةً عنها ثم طوّروا تصاميمَ جديدة.

صنع فنانٌ محترف أول دميةٍ للتّسلية، لكنها حازت على إعجاب الكبار والصغار، وبدأتْ القطع الأولى تُصوّر تفاصيلَ الوجه فقط فبدا بيضاويّاً وصارماً وطغى على حجم الجسد، فبدتْ الدمى بِدائية، أمّا الآن فهي تُصوّر تفاصيل الملابس لشخصيّاتٍ من فئات مختلفة (فلاّحين وتجار ونبلاء) وتُمثّل أحياناً كلّ أفراد العائلة، وقد مثل بعضها مواضيع تاريخية (نبلاء روس، أبطال أُسطوريين، مُحاربين أو شخصيّات من الكتب).

تتألّف دمية سيرجييف بوساد من 2-42 قطعة، لكنّ أشهرها يتألّف من 3 ، 8 ، 12 قطعة.

وفي عام 1913 صنع "بوليشيف" ماتريوشكا مؤلّفة من 48 قطعة وعُرضت في معرض الدمى في سان بيترسبورغ.

اعتمد تطّور الدّمية على مهارة الخرّاط التي ظهرتْ في دقّة الأطراف، أمّا التلوين فجاء في المرتبةِ الثانية، لذلك بدتْ الدمية بأشكالٍ هزليّة.

من ناحية أُخرى، كانت الدمى تُنتج في ورشةِ عمل سيرجييف بوساد بمهارةٍ عالية جعلتْ من الماتريوشكا هديّة روسيّة حقيقية.

كانتْ تقاليد الفن الشعبي مهمة جداً لتطوّر أُسلوب دُمية سيرجييف بوساد الحاليّة، فقد جسّدتْ الشعب الروسي وركّزتْ على الشّكل والوجه، حيث انتقل هذا الفن القديم من الإمبراطورية البيزنطية (الّتي أخذتها بدورها من الثقافة اليونانية القديمة)،

تتميّزُ هذه الدُّمية بخصائصَ معيّنة، حيث ينساب الجزء العلويّ بنعومةٍ بينما يتّسع الجزء السُّفلي، وتُطلى بطبقة كثيفة من الألوان ثم بطبقة من الورنيش.

مثّلتْ هذه الدمى شخصياتٍ من أعراقٍ مختلفة (اسكيمو، نساءٌ غجريّات، رجلٌ أميركيّ، تركيّ، صينيّ، ليثوانيّ أو أوكراني الخ...) وتدريجيّاً أصبحت الشخصيات الرئيسية نسائيّة.

عام 1918 افتُتح "المتحف الروسي الفريد للدمى الروسية والأجنبيّة" في سيرجييف بوساد، وبعدها بوقتٍ قصير تمّ تنظيم معهد أبحاث الدُّمى حيث قدّم ماتريوشكا تضمّ 42 قطعة، وتُعتبر ذات الـ 60 قطعة الأكبر بين هذه المجموعة وصُنعت عام 1967.

• أٌسلوب سيميونوفو :

سيميونوفو هو مركزٌ كبيرٌ وقديم للحِرف اليدويّة الخشبية، تطوّر مع الوقت واستفاد من أخشاب الغابات، وفيه الآن حوالي الـ 200قطعة من إنتاجه، ويستوردُ منه حوالي 33بلداً.

وأول ماتريوشكا هنا صنعها "ارستني مايوروف" المشهورُ بقطعه الخشبيّة، حيث أحضرَ عام 1924 دُميةً دون طِلاء، وقامتْ ابنتُه الكبرى بتلوينها باستخدام ريشةِ إوزّة وصِباغ الأنيلين، ولمدّة عشرين عاماً صنعَ مايوروف أفضلها على الإطلاق في المنطقة.

وفي عام 1931 أصبحتْ ماتريوشكا أهمّ الهدايا التّذكارية في سيميونوفو وتميّزتْ عن سيرجييف بوساد بالزّخرفة والرَّمزية، وحُدِّدتْ فيها خُطوط الوجه والعينين والفم، وأُضيف اللون إلى الوجنتين، ثم ظهرتْ التّنورة والمِريلة الّتي تحملُ رسومَ أزهار، ثمّ الوِشاح .

تحتوي أكبر دُمية سيميونوفو على 72 قطعة (وارتفاعُها 1 متر وقطرها 0،5متر)، صُنعت هذه القطعة الفريدة عام 1970 بمناسبة عيد ميلاد القائد السّوفييتي الشُّيوعي "لينين" وكلَّفتْ 3000 روبل( جدير بالذِّكر أنّ سِعر السّيارة في ذلك الوقت كان 5000 روبل) وأُرسلت الدمية بعدها إلى معرضٍ في اليابان، وفي الثمانينات صمّم الفنان سيروف" ماتريوشكا جديدة لتعليم الأطفال مهارة العَدّ (10 قطع صغيرة داخل القطعة الأُمّ) .

• ميدانُ بولخولفسكي للدُّمى المتداخلة :

هذا المكانُ هو الوطن الأُمّ لنوعٍ آخر من الماتريوشكا، حيث صُنعت الأولى منها عام 1930، وكما هو الحال في سيميونوفو، كانت الماتريوشكا تُطلى أيضاً بالألوان البرّاقة ثمّ بطبقة من الورنيش، وتتميّز بقطعها الكبيرة وبالألوان المُستخدمة (الأخضر، الأزرق، الأصفر، البنفسجي والقُرمزي)، وكانتْ الأشكالُ تمثِّل رسوماً للأطفال أحياناً وأحياناً أُخرى تُجسّد الجمال الريفي الذي يتمثل بحواجبَ مُتقاربة ووجهٍ مُحاط بخصلات الشّعر الأسود، واستُخدمت شرائطٌ كذلك على الشّعر، وكما في سيميونوفو، تظهرُ المِريلة المنقوشة بالزّهور التي تُعتبر رمزاً للأُنوثةِ والحُب وللأُمومة.

• يمكن تقسيم الماتريوشكا الى 3 فترات:

• 1890-1930

• 1930-1990

• منذ بداية 1990 وحتّى الوقت الحالي.

في الفترة الأُولى، تأثّرتْ الماتريوشكا بفترةِ تأسيس الاشتراكيّة في روسيا، والسّبب في ذلك أنّ الحُكومة الروسية اهتمّتْ بإنشاءِ المصانع وكان صُنع الماتريوشكا ممنوعاً في المعاملِ الخاصّة، وكان الفنّان يُعاني من الدّخل المحدود ومن عجْزِه عن إظهار مهاراته اليدويّة، و إذا لم يكنْ من العمال لا يُسمح له باستخدام آلاتِ الخِراطة بالإضافة إلى عدمِ وجود الكهرباء، كما انتشرتْ المُراقبة على الطُّرقات العامّة والسّكك الحديدية لمنع نقل وبيع الحِرف اليدوية خارج المنطقة.

كان العملُ في مصانع سيميونوفو أكثرَ سُهولة، حيث كانتْ أنواع الدُّمى تُصدَّر إلى كل أنحاءِ العالم، لكنّها كانتْ مُتشابهة، وتنقصها اللّمسة الفنية الدافئة.

عام 1928 انتهى عصرُ العمل المجّاني، وتأسّس أول مصنع للماتريوشكا أمّا الدُّمية الأصليّة فأصبحتْ من النّوادر.

في بدايةِ عام1990 عندما كان الوضع الاقتصادي يُدمّر الفنانين والحِرفيين الموهوبين في زمن السّوفييت، حصلوا على حريّة الإبداع، وتحوَّلتْ العديدُ من المصانع إلى إنتاج الدمى المتداخلة لكنها فقدتْ سِحرها بعيداً عن تقاليدها الأصلية و أصبحتْ عِبارة عن دُمية بدائيّة عادية وبسيطة.

الوطن الوحيد الذي وجدته الماتريوشكا فعليّاً هو "كيروف" المدينةُ القديمة بجذورها التّاريخية وتقاليدِها الّتي منحتْها طابعها الخاص.

المصدر :

هنا

مصادر الصور :

هنا

هنا