كتاب > الكتب العلمية

مراجعة كتاب (السمكة بداخلك): رحلة في تاريخ الجسم البشري

لقد قال كارل ساغان مرةً، بأن النظر إلى النجوم هو رحلة عبر الزمن، فقد بدأ ضوء النجوم رحلته نحو عيوننا منذ دهور خلت. وفي هذا الكتاب نكتشف أنه بإمكاننا أن نخوض رحلاتٍ رائعة عبر الزمن أيضاً، ولكن هذه المرة عن طريق النظر تحت أقدامنا إلى الصخور المدفونة في الأرض، وإلى داخل أجسامنا بالتشريح، وإلى داخل خلايانا بدراسة المورثات والكيمياء الحيوية التي نتكون منها.

في كلّ تفصيلة يأخذنا الكاتب في رحلة ممتعة عبر الزمن إلى الماضي السحيق لنشهد معه لحظات حاسمة في تاريخنا وتاريخ الحياة على الأرض، فيبدأ برحلة مع المستحاثات، تقودنا إلى رحلة أكثر تفصيلاً ودقة من خلال جمال التشريح المقارن، لينتهي بالسحر الذي تقوم به الخلايا، بفضل محتواها من المورثات.

ولكن كيف بإمكان كل هذا أن يشكّل رحلة زمنية إلى الماضي؟

يقوم شوبين في كتابه بتتبع فروع شجرة الحياة الهائلة، ويساعدنا على أن نفهم الفارق بين شجرة الحياة المعاصرة التي نجد على فروعها الكائنات التي نعرفها من ثدييات وطيور وأسماك وبكتيريا، وبين الشجرة الخفية التي تضم القرابات التاريخية وعلى أغصانها يقع أسلاف جميع الكائنات المعاصرة، وبإمكاننا أن نرى ومضات من تلك الشجرة –شجرة الحياة- عن طريق دراسة ما أسلفته من مستحاثات، ومقارنة تشريح الأسلاف بتشريح النسل على أفرع مختلفة، فبهذا نفهم متى افترقت الأفرع عن بعضها؟ وممّ نشأ كل عضو في أجسادنا؟ وكيف أصبحنا على ما نحن عليه؟

السمكة التي يتحدث عنها شوبين في عنوان الكتاب هي تحت جلدنا، في هياكلنا وخلايانا ومادتنا الوراثية، ورغم ذلك استغرق العلماء رحلة طولها عشرات السنين كي يعودوا بالزمن إلى الوراء ويفهموا الطريق الذي سلكناه مبتعدين عن سمكتنا القديمة، مقتربين من الحاضر الذي أصبحنا فيه قادرين على النظر إلى الوراء باحترام لكل خطوة قادتنا إلى ما نحن عليه.

يجمع الكتاب بين العلم بدقته وعمق أغواره، وبين فن رواية السير الذاتية، فتجد نفسك مأخوذاً، ففي كل صفحة جديدة تنهمر عليك المعلومات المثيرة للاهتمام والمفاجئة لغير المختصين بأسلوب يكاد يحبس الأنفاس لمن هو مثلي، يستمتع بلذة اكتشاف كل ما هو جديد.

بلغة بسيطة سلسة يحكي لك الكاتب قصة عمرها ملايين السنين من عمر الأرض، وعشرات السنين من عمر الباحثين، قصتك أنت!

في البداية يسلط الكتاب الضوء على الجوانب الأكثر غموضاً ومتعة من علم الإحاثة "علم دراسة المستحاثات Paleontologi" حيث يصطحبنا شوبين في محطات متتالية يحكي من خلالها أهم الكشوفات في هذا المجال من خلال قصّ حكايا الرحلات الإحاثية الاستكشافية للبحث في مجاهل مناطق مهجورة ولكنها قد تحوي كنوزاً معرفية، يصطحبنا عبر ثلوج القطب وحتى عمق الصحراء، نعكف معه أياماً وليالي وهو يحك الصخور المترسبة باستخدام أدوات الأسنان بحثاً عن مستحاثة قد ينير اكتشافها أمامنا سبلاً هائلة من المعرفة، يغمرنا اليأس وهو يصف بحثه بأنه قد يكون أصعب من إيجاد إبرة في كومة قش، ثم تغمرنا اللهفة وهو يصف اللحظات النادرة للكشوف العلمية التي -في كل مرة- تشكل قطعة مثالية متوافقة تماماً مع الموقع الذي توقعته لها نظرية التطور على فروع شجرة الحياة، فيضيء كل اكتشاف جديد مراحل أكثر تفصيلاً في مسار تاريخ الحياة على الأرض.

نفهم مع شوبان من هي السمكة المسطحة الشهيرة "تيكتاليك" ولماذا اكتسبت شهرتها، يشرح لنا بصبر وبأسلوب جذاب كيف بإمكاننا أن نتتبع الصلات الوثيقة بيننا وبين جميع الكائنات الحية من خلال التشريح المقارن، فالبنية الأساسية لهياكلنا العظمية بدأت بالتمايز منذ رفعت أولى الأسماك المسطحة رأسها من على ضفاف المستنقعات معتمدة على ما سيتطور لاحقاً ليكون أطرافاً تتراوح بين أجنحة للطيور أو للخفافيش، أقداماً أمامية للبرمائيات وباقي الثدييات، وأذرعاً بأصابع ماهرة لنا، وجميعها تمتلك الترتيب البديع نفسه من عظم الكتف إلى تفاصيل عظام المعصم بحيث يمكن لمن يقارن بينها أن يتتبع رحلة التغييرات التدريجية التي سلكتها الكائنات في رحلة التطور التي لا تتوقف.

هل كنتم تعلمون -على سبيل المثال- أن علم التشريح المقارن كان قد بدأ كملاحظاتٍ موثقة لدى بعض العلماء حتى قبل أن ينشر داروين كتاب أصل الأنواع؟ نعم فأجساد الكائنات على وجه الأرض هي كتاب مفتوح ينتظر من يلاحظه، وكل عضلة وعظمة وغضروف وعضو له حكاية طويلة تنتظر من يكشف عنها الستار.

لا يقتصر كتاب شوبان على استعراض أسرار التشريح المقارن، بل يزداد إمتاعه حين يغوص قليلاً في شرح ممتع عن التطور الجنيني الذي يمثل رحلة نتشابه في مراحلها الأولى جميعنا بأدق التفاصيل مع كل كائنات الأرض، وذلك قبل أن يتمايز كل منا إلى أشكال مورفولوجية مختلفة، وفي هذا السياق يشرح لنا التجارب التي قام بها العلماء للتحقق من قرابة الكائنات عن طريق إثبات أن المورثة التي يمتلكها كائن ما قادرة على العمل بنفس الفعالية عند زراعتها في جنين كائن آخر! وهذا مجال آخر يلامسه الكاتب قليلاً بصفته علماً تجريبياً يضيف على البراهين والأدلة التي نمتلكها، فكما وجدنا أن القرابات بين الكائنات يمكن أن توصف عن طريق مقارنة مورفولوجية أعضائها، فالقرابات نفسها يعاد إثباتها مرة ثانية -وبنفس النتائج التي تعيد رسم نفس العلاقات التطورية على غصون الشجرة- عن طريق مقارنة المورثات والتعديلات التدريجية التي طرأت عليها عبر الزمن، حيث يمكن تتبع مورثاتنا الحالية إلى أصولها القديمة جداً حتى الوصول إلى وحيدات الخلية!

يساعدنا هذا الكتاب على أن نفهم أنفسنا أكثر، فهو يجيب على بعض الاسئلة الهامة ويشرح لنا لماذا نشترك مع جزء كبير من الأفرع على شجرة الحياة بآلية الإحساس نفسها من رؤية وشمّ من الناحية الوظيفية والجينية؟ كيف نشأت عظام الأذن لدينا؟ لماذا نتعرض إلى الإصابة بالفتق؟ لماذا نصاب بالفواق (الحازوقة)؟ ولماذا نثمل بالكحول؟

قد يعرف كل منا بعض هذه الأجوبة ولكن هل تعرفون منشأها التاريخي؟ يمكننا بمقارنة أعضائنا بأعضاء الدجاج والذباب والأسماك أن نحصل على الأجوبة عن منشأ هذه الظواهر التي تعودنا عليها ولا ندرك كونها مغرقة في القدم كإرث نحمله معنا عبر الأجيال.

لا يتطرق الكاتب في هذا الكتاب لشرح آلية التطور بالانتقاء الطبيعي، لذلك أنصح المبتدئين بالاطلاع على آليات وشروط وأمثلة الإنتقاء في مراجع أخرى وكذلك الاستفادة من قسم التطور في موقعنا هنا ، أما ما يختص به هذا الكتاب فهو عبارة عن جولة نقوم بها للربط ما بين المشاهدات كنتائج وأدلة على هذه الرحلة المبهرة التي امتدت لملايين السنين.

استمتعت كثيراً بقراءة هذا الكتاب وبسلاسة الأفكار وروح الفكاهة التي وجدتها لدى الكاتب بين الصفحات، وروح المغامرة التي يتميز بها العلماء، ولكن أهم ما أعجبني فيه هو الشغف.

الشغف بالعلم والاكتشاف نعمة لا يمتلكها الجميع، وحين أجد كتاباً كهذا من عالمٍ قدير له وزنه في المجتمع العلمي وفي نفس الوقت يمتلك القدرة على نقل تجربة الشغف إلى غيره، فهذا كنز معرفي لا يجب أن تفوتوه.

معلومات الكتاب:

الكتاب: السمكة بداخلك - رحلة في تاريخ الجسم البشري

الكاتب: نيل شوبين

المترجم: حسن أحمد غزلان

دار النشر: دار كلمة للنشر

عددالصفحات: 319