الفنون البصرية > فن وتراث

جورج خباز ... الكوميدي الحكيم

قصدتُ مسرحَ "شاتو تريانون" في مدينة بيروت، لحضور مسرحية لبنانيّة بعنوان "مش مختلفين" تلك الأمسية من يوم السابع عشر من كانون الثاني من عام 2013

و إذ بممثلٍ قصير القامة،هو بطلُ المسرحيةِ كما اتّضح لي لاحقاً، يلبس نظّارةً دائريّة العدسات وزيّاً أصفرَ، يقف على خشبةِ المسرح و يقول :

"ما نقيت وين خلقت ... ولا نقيت وين علقت

ما نقيت إسمي شو ... ولا طولي قديشو

ما نقيت شكلي كيف ... عادي ناصح ولا ضعيف

ما نقيت أهلي مين ... ولا المذهب ولا الدين

ما نقينا نحنا مين ... ع شو دخلك مختلفين"

وفي حضرة الكوميدي الحكيم، كما أحب أن أسمّيه، يبهرُ الممثلُ والمسرحيُّ والمخرجُ اللبنانيُّ جورج خباز متابعيه في مسرحياته التي غالباً ما يكتبها ويخرجها بنفسه.

كنت أشاهد هذا الجو الرائع، أصغي إلى الرّجال يضحكون بصوت عالٍ ، وأرى النسوة اللبنانيات يتساقط من أعينهنَّ الكُحلَ بين فصول المسرحية من شدة التأثر بفكاهة المواقف.

بلهجته اللبنانية البسيطة، المُتَداولة في بلدات لبنان وريفه الجميل، يتحدث جورج خباز في مسرحياته، لا يخجل باللغة العربية ودائما ما ينتقد اللغات الأجنبية وخصوصاً الفرنسية، مدافعاً عن اللغة الأم، وواقفاً في وجه الصورة النمطية عن الشعب اللبناني وعلاقته باللغة العربية. في زمن لم يعد هناك قامة فنية عربية أصيلة تعيد لخشبة المسرح هيبتها وبريقها، وفي زمن افتقدنا فيه حضور فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين في المسرح اللبناني، جاء جورج خباز ليحمل هذا العبء متخلياً عن العقود المالية الفارهة في الدراما التلفزيونية كي يعيش حلمه الخاص في مسرحه الخاص.

هكذا أحببت أن أقدم جورج خباز لكل من لا يعرفه ..! فجورج "الضاحك في وجه مآسي لبنان " و على عكس الكثيرين ممن ولدوا في حقبة الحرب الأهلية اللبنانية، بقي متمسكاً بقضايا وحدة بلاده و مجتمعه، يحمل رسالة بسيطة مفادها : "السلم الأهلي في لبنان لا تصنعه الحكومة وإنما إعادة الحب والود بين أفراد المجتمع" هكذا أراد أن تكون حياته ، هو الذي ولد في الخامس من تشرين الثاني نوفمبر من عام 1976 إذ كان قد مضى على حرب لبنان الأهلية سنتان ، كل ما كان حوله ينذر بكآبة الموت في لبنان. ترعرع في البترون شمالي البلاد، حيث رائحة البحر المتوسط ونسيمه العبق يرسم صورة أنيقة عن طفل قصير القامة سيغدو لاحقاً أهم ممثلي لبنان في العصر الحالي ومجدد الفن المسرحي اللبناني ومنقذ حياته. نشأ في ظلّ عائلة فنّية عريقة ، فوالده الممثل اللبنانيّ جورج خبّاز الأب ، و أمّه الممثلة اللبنانية أوديت عطيّة . و أخوته نقولا و لارا ، و لورا التي ستصبح لاحقاً شريكته في كل الأعمال المسرحية . في ظلّ هذا التألق الفنّي الذي يعيشه في عائلته ، كان لا بدّ أن يصبح المسرح شغله الشاغل كلما شاهدَ والديه يبدعان و يتألّقان. يتذكّر الجميع ذلك الطفل الناجح في التقليد، إذ كان يقلّد كل ضيفٍ بعد مغادرته المنزل، فيحسن تمثيل الشخصية على مسرح طفولته الذي تمثل في "كنبة المنزل"، حيث يقف عليه ويؤدي مسرحياته ويُضحك الجميع..

كان "تشارلي شابلن" الممثل الكوميدي البريطاني قدوته في مسيرته الفنية التي بدأت في عام 1995 في برنامج كوميدي بعنوان "شباب وبنات" علماً أنه كان له الكثير من الإطلالات قبل ذلك، ولكن يمكن القول أن الإنطلاقة الحقيقيّة كانت في هذا الموعد. إذ يذكر جورج خباز في إحدى مقابلاته عن حادثة عندما كان في الرابعة من العمر، حيث كان يقف على خشبة المسرح ويؤدي دور القدّيس مارون، و إذا به ينزل من على خشبة المسرح ويحدث والديه ويعود إلى الخشبة مما أثار ضحك الحاضرين . آمن جورج خباز بموهبته، واختار المسرح طريقاً له. قد يقول البعض، لماذا اختار هذا المجال الذي لا يدرّ المال على أصحابه، ذلك الفن المسرحي الذي بدأ يتلاشى أمام شاشة التلفاز والسينما، حيث الدراما المولود الفني الجديد الذي يعود على أصحابه ، إضافةً للسينما ، بكمٍّ كبير من الربح المادي الكبير.

لقد صارع جورج خباز كثيراً في هذه الدوامة وبنى نفسه بنفسه، تأثر في البدايات بأعمال الأخوين الرحباني، وكبُر وفي مخيلته قضيّة واحدة: مسرح لبنان لا يجب أن يندثر. في المدرسة وبينما كانت مواهبه تتفجّر على مسرحها، كانت المواد العلميّة عدوّه الأول، لذلك دخل الفرع الأدبي، حيث تابع تعليمه وتخرج سنة 1997 من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية الرحلة الطويلة مرت بمجموعة من المحطات، على التلفزيون، وتحديداً في المؤسسة اللبنانية للإذاعة LBC الفضائية اللبنانية، حيث قدّم جورج خبّاز نفسه في برامج كوميدية. أمّا على المسرح فكانت "غادة الكاميليا" أولى المسرحيات سنة 1996. استمر بعدها ليقدم مسرحية "هاملت في ورطة". وحصد نجاحاً باهراً في الكوميديا التلفزيونية بعنوان "بس مات وطن" أو "بسمات وطن" ولكم حرية اختيار اللفظ.

نجاحه في هذا العمل الممتد من 1997 حتى 2001 لم يكن لينسيه حلمه ورسالته، بقي المسرح في خاطره طيلة الوقت، جاءت مسرحية "مصيبة جديدة في سنة 2005 لتسبق الهدوء الذي سيأتي بعده عاصفة من النجاحات المسرحية، حيث ظهرَ قدرٌ جديد لهذا الفنان في عيد ميلاده الثلاثين . قدّم مسرحية جديدة بعنوان "كذاب كبير" في العام 2006، تجري أحداث هذه المسرحيّة في قصر كبير يغيب عنه سيّده ويسافر، تاركاً خلفه عمّال القصر بمن فيهم عامل الحديقة وابنة أخيه التي تعيش معه. يحبّها أحد الشبان من أبناء العائلات الأرستقراطية، ولكي يُقنع أهله أن يزوجوه الفتاة ، طلب من عامل الحديقة وابنة أخيه الادّعاء بأنهم مُلّاك القصر وأنهم أيضا أرستقراطيين . وهنا تبدأ الكوميديا بين أهل العروسين، لتنتهي المسرحية على وقع مكاشفة كبيرة تنتهي إلى تساوي البشر جميعاً وأن إنسانيّتهم تجمعهم في النهاية مهما فرقهم المال، ليكتشف الجميع أنهم أبناء نفس البيئة.

لقد كان نجاح مسرحية كذاب كبير مُبهراً للغاية ، إذ عُرضت أكثر من مرة ولاقت استحسان الجمهور، ليأتي في السنة التالية مع عمل جديد بعنوان "هلّق وقتا" في سنة 2007 يمثل فيه دور جندي في الجيش اللبناني يتمّ نقله إلى فرقة عسكرية مهمتها حراسة قلعة أثرية. ويرتكب هناك مجموعة من المخالفات العسكرية بسبب بلادته وعدم تحمله لمسؤولياته . وتشاء الأقدار أن تأتي إحدى الفنانات الاستعراضيات لتؤدي أغنية في هذه القلعة، وخلال التصوير تقع في حب هذا الجندي البسيط وتكتشف أنّه طيب القلب و وفيّ لحبيبته التي تركها في القرية ، مذكّراً جميع اللبنانيين بضرورة أن يوجدوا هدفاً في حياتهم، فهو كان له هدف سعى ورائه من خلال الالتحاق في مؤسسة الجيش وهو الإنتقام لدم صديقه الذي استشهد مع الجيش، حيث أراد أن يجعل من نفسه منارة للباقين فيحمل سلاح الشرعية ليدافع عن سِلم بلاده ووحدة مجتمعه بدل الاقتتال..

كان نجاح "هلق وقتا" مشابهاً جدا لنجاح "كذاب كبير"، تلك الكوميديا البسيطة التي دخلت الشارع الفني اللبناني و فرضت على الجميع احترامها، فلبنان بلدٌ معطاء ،بلدٌ ولّادةٌ للنجوم، وهذا ما رسّخه في مسرحيته التالية بعنوان "شو القضية" سنة 2008، والتي يلعب فيها دور محامٍ متمرّس وقوي، ولكنه زير نساء. وفي يوم من الأيام يجد ضالته في حبّ امرأة .

في هذه الأثناء يأتي إليه رجل مجرم وسجلّه القضائي مليء بالجنايات وجُنح القتل، يغار على زوجته كثيراً، و يساوره شكٌّ بأن زوجتَه تخونه مع رجلٍ ما، و يطلب منه استشارة قانونية ، ليكتشف المحامي بأن مواصفات زوجة المجرم وعشيقها تتطابق تماماً مع الفتاة التي أحبّها وأراد الزواج منها.ترتعد فرائسه، وينقلب سحره عليه، ويكاد يقع في المصائب، لتُكشف الحقائق في النهاية ويعرف بأن زوجة ذلك الرجل لم تكن هي نفسها حبيبته،. فيتعلم درساً مهما بأن الرجل الحقيقي الشجاع هو الذي لا يتلاعب بمشاعر النساء. وأنّ درب الرجال والنساء الذين يخونون أزواجهم مصيره الضياع والشتات.

وعلى النقيض من مسرحية "شو القضية" جاءت مسرحية "عالطريق" حيث يجسّد دور الوفيّ لحبه الأول والقديم، يشغل نفسه في العمل لينسى عذابات الماضي المرير وحرمانه من الحصول على حبيبته فقط لأنه فقير. لكن ذلك الفقير تغيّر بعد صدمته من والد حبيبته ليؤسس شركة مناسبات والتي تنمو وتكبر، وفي يوم عمل مميز يقرر موظفوه فتح الماضي والإعداد "لمسرحية" من أجل إعادته لحبه الاول، تلك المسرحية التي انتهت بمكاشفات كثيرة، وضعته في موقف مميز للانتقام من والد حبيبته الذي أصبح فقيراً بعد أن كان غنيّاً، وهنا يثبت كرمه وطيب أخلاقه ويرفض الإنتقام، وتنكشف خيوط المسرحية، وبطيبة قلبه يحصل على قلب حبيبته.

توالت النجاحات الكبيرة بعد هذه المسرحيّات ، و حقّق نجاحات مبهرة في مسرحية "البروفيسور" في العام 2010 ومسرحية "مطلوب" في العام 2011 تلاها نجاحه الكبير في مسرحية "الأول بالصف" في العام 2012 .

مسرحية البروفيسور

مسرحية مطلوب:

مسرحية الأول بالصف:

رافق هذه الحقبة هوىً جديد مع نوعٍ فنيٍّ مختلف. إنها السينما اللبنانية، فبعد النجاح الذي حققه فيلم "تحت القصف" عام 2007، جاء فيلم "سيلينا" في العام 2009 الذي يحكي قصة ملك ديكتاتور يريد الزواج من فتاة ريفية بسيطة. هو في الواقع قصة مسرحية قديمة للسيدة فيروز بعنوان هالة والملك، أعاد تمثيلها جورج خباز في عمل سوري لبناني مشترك بحضور عدد من نجوم الدراما اللبنانية والسوريّة،. استطاع الفيلم أن يسرق الأضواء في الاوساط الفنية، وذلك لأنه فيلم غنائي بامتياز، روّجت له الألبومات المباعة للأغاني التي تم الاعتناء بها في الفيلم لتترافق مع قصة جميلة، وكالعادة جورج خباز لا يعمل إلا ضمن بساطته المعهودة..

مقطع من فيلم تحت القصف Under the bombes:

فيلم سيلينا :

أصبح جورج خباز نجما في مجالين كبيرين، المسرح والسينما. خطوات كبيرة وإصابة الهدف المجتمعي بامتياز هذه المرة كانت ميزة فيلم "طب الجرة على تما" تلاه مؤخراً فيلم "غدي" في العام 2014 الفيلم الذي فاز العديد من الجوائز في شتى المهرجانات، حيث رشحته مؤخراً وزارة الثقافة اللبنانية ليكون ممثل لبنان في مهرجان جوائز الأوسكار 2014 .

فيلم غدي :

سنة ٢٠١٤ كانت قد شهدت أيضا فيلمين مميزين من كتابة جورج خبّاز و إخراجه، فبالإضافة إلى فيلم "غدي" شهدنا فيلمي" وينن" و "رفقا" نجاح جورج خباز بقي مستمراً على خشبة المسرح بالمزيد من المسرحيات الكبيرة، مسرحية "مش مختلفين" تروي حكاية لبنان الأولى، العداءات الطائفية والمناطقية على أرض لبنان، حيث في بلاد أوروبا تحدث قصة حب بين علي وكريستينا، كل منهم من طائفة ومنطقة مختلفة، يقرران الزواج من خلال عقد قرانهما مدنياً ومواجهة مجتمعهما، فيحاربان من أجل قضيتهما ويفشلان في النهاية، عبرة المسرحية هي أنك تستطيع الزواج من شريك من غير فئة عمريّة أو من جنسية أخرى، لكنك لا تستطيع الزواج من غير دينك ومنطقتك وذلك بسبب المجتمعات المتمزقة التي ينظر أفرادها لأنفسهم على أنهم أفضل من غيرهم، فيرفضون الارتباط من دياناتٍ أخرى وينغلقون على ذاتهم . يروي علي لأصدقائه دوماً قصة حبيبته في كل اجتماع، ويتخيلها بجانبه، ليقضي عمره مطارداً حلمه وحاقداً على المجتمع . مسرحية" مش مختلفين" لاقت صداها في المجتمع اللبناني، فتلك الحرب الأهلية التي مزقت البلاد آن لآثارها بأن تزول، وحان الوقت ليوجِد اللبنانيين نظاماً مجتمعياً يضمن الحياة الكريمة للجميع بعيداً عن أروقة السياسة والدين.

المجتمع اللبناني بعضه رفض المسرحية وهاجمها والبعض الأخر أبدى تخوّفه منها في حين كان للأغلبية صوت الشكر لجورج خبّاز، مما وضع جورج خباز كنجم لبناني محبوب بين جميع طوائف لبنان وليس فقط ضمن بيئته وطائفته. كما أنّ هذه المسرحية نقلت جورج خباز ليصبح نجماً محبوباً لامعاً عربياً ودولياً. عُرضت هذه المسرحيّة على موقع يوتيوب و حصلت على أكثر من 90 ألف مشاهدة منذ عرضها على الفضائيّة اللبنانيّة قبل عامٍ من الآن .

مسرحيّة " مش مختلفين " :

نجاح مسرحيات "مش مختلفين" و "ناطرينو" تبعه مؤخراً الترويج لمسرحية جديدة بعنوان "ورا الباب" . تُعرض حالياً على المسرح الذي أصبح تقريباً باسم جورج خباز وهو مسرح "الشاتو تريانون " في مدينة بيروت ، والتي تتحدث عن ضرورة الوحدة اللبنانية وحل النزاع المجتمعي بعيداً عن السياسة ، وأن المجتمع اللبناني لابد من تحييدِه عن صراع السّاسة ورجال الدين . و كي يستطيع لبنان النهوض لابد أن يبدأ شبابُه بالتفكير في البحث عن حياة حقيقية دون حمل السلاح واغتيال الأفراد و الإنجرار وراء سياسيّي البلاد، هذا الحل الذي لطالما رسخه جورج خبّاز في أعماله الفنية.

تمتاز مسرحيات جورج خباز بأنّها مسرح كلاسيكي بحت، تجري أحداث قصته ضمن يومٍ واحدٍ، وكأنها قصة عابرة، مشابهة في ذلك الأعمال الكلاسيكية المسرحية اللبنانية. ومن خلال موسيقى الجاز الممزوجة بالموسيقى اللبنانية، يمكن أن نؤكد أن مسرح جورج خبّاز ما هو إلا امتدادٌ لمسرحٍ مميزٍ جداً يكمل مسيرة قامات لبنان الفنية ولو أنه يحمل هذا العبء الفني وحيداً. من " الباحثون السوريون" نرسل للفنان القدير جورج خبّاز كل التحيات والتقدير، فهو محطّ احترام الكثير من السوريين الذين يتابعون أعماله الفنية ومسرحياته جورج بنظرته المتواضعة، ونظارته الكلاسيكية، هو من غنى لنا "كبرت البنوت" ، و "ع لبنان قريباّ " ، والكثير من اللقطات المميزة العالقة في بالنا . نقول له : أستاذ جورج خباز، دماء صديقك الشهيد لم تذهب "عالفاضي"، وفنّك سيبقى امتداداً لقامة فيروز و مسرح الرحابنة، حيث لا يكنّ أي لبناني أو عربي أو حتى ناطق بالعربية إلا الحب والاحترام لهذا المسرح الذي لطالما وجد من يُحييه بين الحين والأخر ويحمل لوائَه في الأزمنة القادمة.

المصادر:

هنا

هنا