الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الحرية والأخلاق عند كانت، نقد النظرية النفعية

قرأنا في مقال سابق عن نظرية "النفعية" في الأخلاق، حيث تنصّ باختصار على أننا كبشر محكومون بسيّدين، هما الألم والسعادة، ووفقاَ لذلك، مايعدّ فعلاً أخلاقيا هو أي فعل يزيد من سعادتنا ويخفّف من ألمنا.

يرفض الفيلسوف "إيمانويل كانت" هذه النظرية، حيث يشرح بأنَّ بناء الحقوق بعد إجراء حساب لما ينتج الكم الأكبر من السعادة يجعل الحقوق معرضة للاعتداء بسهولة. بل هناك مشكلة أعمق، وهي أن محاولة اشتقاق المبادئ الأخلاقية من "الرغبات" التي حدث وأننا نمتلكها، طريقة خاطئة في التفكير بالأخلاق.

فحقيقة أن شيئاً ما يمنح العديد من الناس الشعور بالمتعة لايجعله بالضرورة صحيحاَ. ومجرد حقيقة أن تفضيل الأكثرية -مهما كانت كبيرة- لقانونٍ ما، لايجعل هذا القانون عادلاً بالضرورة.

يقول "كانت" بأن الأخلاق لا يمكن أن تستند على مجرد اعتبارات تجريبية، مثل الأهواء أو الرغبات والميول التي يمتلكها الناس في وقت ما، لأن هذه العوامل مختلفة من شخص لآخر ومشروطة. ونقطته الأهم في اعتراضه على النفعيين هي أن إرساء الأخلاق على الأولويات أو الرغبات يسيء فهم ماهية الأخلاق وما تعنى به.

إن مبدأ السعادة عند النفعيين لايساهم بشيء في تأسيس الأخلاق. حيث أن جعل شخص ما سعيداُ مختلف تماماَ عن جعله صالحاُ، واعتماد الرغبات والميول كقاعدة للأخلاق يدمر كرامتها، فهو لايعلمنا كيف نميز الصحيح من الخطأ، بل فقط أن نصبح أفضل في الحساب!

إذا لم تكن السعادة هي الأساس الذي تبنى عليه الخلاق، فما هو إذاُ؟

يشرح "كانت" بأنه يمكننا التوصل الى المبدأ الأخلاقي الأعلى من خلال ممارسة مايسميه "المنطق العملي المحض"، حيث أن كل شخص منّا يستحق الاحترام ليس لأننا "نملك" أنفسنا، بل لأننا كائنات راشدة، قادرون على التفكير وإدارة حياتنا، نحن أيضا مستقلون، قادرون على الاختيار والتصرف بحرية، هذا لا يعني بأننا ننجح دائماً في التصرف بعقلانية أو الاختيار باستقلالية، فنحن نستطيع في بعض الأحيان ولكننا لانستطيع في أحيان أخرى.

مايعنيه "كانت" هو أننا نملك القدرة على الفهم، والحرية، وهذه القدرة مشتركة بين البشر. وكل من الحرية والعقل هما قدرتان متلازمتان، وهما مايجعلاننا مميزين وليس مجرد مخلوقات تحكمها الغرائز.

ما هي الحرية؟

لفهم فلسفة "كانت" الأخلاقية لنحاول فهم مايعنيه بالحرية. غالباَ مانعتقد بأن الحرية هي غياب العقبات في فعل مانريد. "كانت" لا يوافق على هذا. برأيه أننا عندما نتصرف كما الحيوانات، فنسعى إلى المتعة، ونبتعد عن الألم، فإننا نتصرف كعبيد لشهواتنا ورغباتنا.... لماذا؟ لأن سعينا إلى إشباع رغباتنا هو ممارسة لأشياء في سبيل غاية خارجة ومستقلّة عنا. فأنا أذهب في هذا الطريق لأشبع جوعي وذاك الطريق لأطفئ عطشي.

مايحاول "كانت" قوله أنه عندما نقوم بهذا، فهذا الفعل لا ينمّ عن حرية تصرف، بل هو تصرف وفقاً لحتمية خارجة عنا.

هل تذكرون هذا الإعلان الذي أصدرته شركة سبرايت منذ سنوات والذي يقول " امتثل لعطشك!"

هذا الإعلان يحمل وجهة نظر "كانتية" بلا شكّ! حيث أنك عندما تشتري زجاجة سبرايت أو بيبسي .. فإنك تتصرف بدافع الطاعة، وليس الحرية، أنت تطيع عطشك!

حسب "كانت"، كلما كان تصرفي حتميّ بيولوجياُ أو مشروط اجتماعياَ، فإنه ليس حراً في الحقيقة. حتى يكون الفعل حراَ بحسب "كانت"، عليه أن يكون مستقلاً، وأن يكون الفعل مستقلاً أي ان أتصرف وفقا لقانون أعطيه لنفسي، وليس وفقا لما تمليه الطبيعة أو الأعراف الاجتماعية.

لفهم معنى التصرف "باستقلالية" تخيل أنك رميت كرة بليارد، عندما ترميها فإنها تقع على الأرض، في وقوعها هذا هي لا تتصرف بحرية أو "استقلالية" بل إن حركتها محكومة بقانون طبيعي خارج عن إرادتها، أي قانون الجاذبية.

نصل هنا إلى الرابط عند "كانت" بين الحرية كاستقلالية وبين الأخلاق، فأن تتصرف بحرية لايعني أن تختار أفضل الوسائل لتصل الى غاية محددة، بل أن تختار الغاية بحد ذاتها لأجل ذاتها، اختياراً يمكن للبشر أن يفعلوه ولكن ليس كرات البلياردو.

متى يعد الفعل "أخلاقياً" إذاً؟

بالنسبة لكانت القيمة الأخلاقية للفعل غير محتواة في العواقب التي تترتب عليه، بل في النية التي تحكم الفعل.

حيث أن مايهم هو الدافع والدافع يجب أن يكون من نوع معين، مايهم هو القيام بالفعل الصحيح لأنه صحيح، وليس لدافع خفيّ.

يكتب "كانت" قائلاَ:" لكي يعدّ أي فعل، صحيحاَ أخلاقياً، لا يكفي أن يطيع القانون الأخلاقي، بل يجب أن نقوم به لأجل القانون الأخلاقي أيضاَ"، و الدافع الذي يمنح القيمة الأخلاقية للفعل هو دافع الواجب، والذي يعني به "كانت" فعل الشيء الصحيح للسبب الصحيح.

بقوله أن دافع الواجب هو الوحيد الذي يمنح قيمة أخلاقية للفعل، "كانت" لايخبرنا ماهي هذه الواجبات التي علينا، و لايخبرنا ماهو المبدأ الأخلاقي الأعلى!

في المقال القادم سنتحدث عن هذا المبدأ الأخلاقي الأعلى وربما أكثر!

المصادر:

هنا