البيولوجيا والتطوّر > أسئلة شائعة عن نظرية التطور

الجزء الأول - نظرية التطور وبداية الحياة، ومعنى كلمة

استمع على ساوندكلاود 🎧

عندما يتم الحديث عن نظرية التطور فإن أول ما يتبادر إلى أذهان البعض هو أن التطور مجرد نظرية، ليس قانوناً أو حقيقة علمية، وهي غير صالحة لأنها لا تفسر أصل الحياة، فهل هذا الكلام صحيح؟ تابعوا معنا هذه السلسلة من المقالات علها تساعد في وضع الأمور في نصابها عن طريق تقديم الأجوبة العلمية على هذه الأسئلة وغيرها من أهم الاسئلة الشائعة عن نظرية التطور

1- كيف تشرح نظريّة التطور بداية نشأة الحياة؟

هذا السؤال، بأشكاله المختلفة، هو من أكثر الأسئلة شيوعاً حول نظرية التطوّر. في الحقيقة، نظريّة التطوّر لا تقدّم أي شرحٍ لنشأة الحياة، ولكن هذا ليس عيباً في النظريّة، فهي نظريّةٌ لا تحاول أصلاً أن تشرح نشأة الحياة. فالشكوى حول كون نظريّة التطوّر لا تفسّر نشأة الحياة يشبه نوعاً ما الشكوى بأنّ قانون الغازات العام لا يفسّر الجاذبيّة الأرضيّة (قانون الغازات يتحدث عن حرارة الغاز وحجمه وضغطه وبالتالي لا علاقة له بالجاذبية على الإطلاق).

مع أنّ نظريّة التطوّر قدّمت بعض الأفكار والمقترحات حول أصل الحياة، مثل بداية الحياة قرب أعماق البحار، حيث نشأت الجزيئات العضويّة الأولى وما إلى ذلك من الأفكار، لكن نشأة الحياة ليست جوهر النظريّة. إنّ نظريّة التطوّر تفترض وجود الحياة بالأصل، وما تشرحه وتفسّره هو كيفية استمرار الحياة وتطوّرها عبر الحقب الزمنيّة المختلفة. أمّا عن بداية نشأة الحياة، فهذا موضوع آخر منفصلٌ كلّياً عن نظرية التطور، ويمكنكم الإطلاع على بعض "النماذج" المقترحة عن نشوء الحياة هنا

2- التطوّر مجرد "نظرية"، هي ليست حقيقة أو قانوناً علميّاً، ولا يمكن اختبارها وقياس مدى صحّتها:

بداية، علينا أن نعرف ما هو "التطوّر" وما معناه، فكلمة "التطوّر" مثل العديد من الكلمات لها أكثر من معنى. بيولوجيّاً، يمكن تعريف التطوّر على أنّه "التغيير في الجينات مع مرور الوقت". وبناءً على هذا التعريف فإن التطوّر لا يمكن أن يكون كما يصفه معارضوه بأنه "مجرد نظرية"، فناهيكم عن الخطأ في استعمال كلمة "نظرية"، فلا يمكن إنكار تغيير الجينات وانتقالها من الآباء إلى الأبناء والتي هي التعريف المبسط للتطور. ومن ناحيةٍ أخرى فإن العديد من النّاس يربطون مفهوم التطوّر مع "الأصل المشترك"، النظريّة التي تقول بأن جميع أشكال الحياة قد نشأت من سلفٍ  واحدٍ مشترك.

قد يعتقد البعض أن هناك ما يكفي من الأدلّة لنطلق على هذه النظريّة لفظ "حقيقية"، ولكن فعليّاً نظرية السلف المشترك هي ليست نظريّة التطوّر، بل هي فرعٌ منها (وهي أيضاً فرعٌ من نظريّات أخرى مختلفة تماماً عن نظريّة التطوّر). نظريّة التطوّر لا تقول فقط بأن الحياة تتطوّر، بل تقترح آليات لهذا التطوّر، وأهمّها: الطفرات، والانتقاء الطبيعي، والانحراف الجيني، التي تشرح بشكل مطوّل كيفية تطوّر أشكال الحياة. القول بأن نظريّة التطوّر مجرّد نظريّة هو بالمعنى الحرفي للكلمة صحيح. ولكن الفكرة التي يحاول البعض إيصالها من استخدام هذه الكلمة هي خاطئةٌ نوعاً ما. إنّ  الجدل القائم سببه الخلط بين مصطلح "نظريّة" وبين الاستخدام غير الرسمي لهذا المصطلح ضمن سياقٍ علمي. وفقاً للأكاديمية الوطنيّة للعلوم (National Academy of Sciences (NAS) فإنّ النظريّة العلميّة هي "شروحات موثّقة جيداً لجانب من جوانب العالم الطبيعي، والتي يمكن أن تتضمّن حقائق وقوانين واستدلالاتٍ واختباراتٍ للفرضيات المتعلّقة بالنظريّة". وهذا المفهوم لا يعني عدم اليقين أو التهاون في استدعاء الأدلّة. وبشكل عام، فإن الفرق بين النظريّة العلميّة والقانون العلمي هو كون القانون العلمي يمكن اختصاره بإيجازٍ واقتضابٍ أكثر من النظريّة العلمية. كون نظريّة التطوّر نظريّةً علمية فهذا يعني أنها متناسقة مع العلم، ومتّفقة مع العديد من المشاهدات والأدلّة.

ثم إنّ  نقص الأدلّة ليس عيباً، بل على العكس فإنّ الادّعاء بصحّة النظرية بشكل قطعي يعتبر نوعاً من التغطرس غير المقبول علميّاً. لا شيء في هذا العالم حقيقي مئة بالمئة. في عالمنا الحقيقي، يجب أن نتعامل مع مستويات اليقين بناءً على الأدلّة الملحوظة. وكلّما ازدادت الأدلّة التي تدعم نظريّة معيّنة، كلّما ازداد اليقين بها. وعندما نحصل على ما يكفي من الأدلّة، نطلق عليها اسم "حقيقة"، ولكن حتى في هذه الحالة، فلا شيء حقيقي مئة بالمئة. وبالنسبة لنظريّة التطوّر، فهناك العديد من الدلائل التي تدعمها في مجالات الوراثة، والتشريح، وعلم البيئة، وسلوك الحيوان، وعلم المتحجرات وغيرها. وإذا كنت ترغب في تحدّي نظريّة التطوّر، فعليك بالعمل على هذه الأدلّة، عليك أن تثبت أن هذه الأدلّة خاطئة، أو غير ذات صلة، أو أنها تناسب نظريّةً أخرى بشكل أفضل. وللقيام بذلك، لا بدّ أن تتعرّف أولاً على النظريّة نفسها والدلائل التي تدعمها في شتى المجالات.

وقد يعترض البعض على نظريّة التطوّر بقوله أن هذه النظريّة غير قابلة للاختبار، فهي عبارة عن ادّعاءات حول أحداثٍ لم نشهدها ولن يتسنّى لنا رؤيتها أبداً. وهذا النوع من التساؤلات بالطبع مهم ويفتح أبواباً جديدة للبحث والاكتشاف، ولكنّه يتجاهل أمراً أساسيّاً، وهو ملاحظة وجود مجالين أساسيين لعمليّة التطوّر: التطوّرات الصغيرة (Microevolution)، والتطوّرات الكبيرة (Macroevolution).

فالتطوّرات الصغيرة تحدث على مستوى التغييرات في الجينات ضمن النوع الواحد على مرّ الزمن. وحين تتراكم هذه التغييرات قد تؤدي إلى نشوء أنواعٍ جديدةٍ أيضاً. أمّا التطوّرات الكبيرة، فتصف التغييراتِ التراكميةَ التي تحدث على مستوى المجموعات التصنيفية وتستمد أدلّتها من السجلّات الأحفوريّة ومقارنة الأحماض النووية لمعرفة أي روابط تربط بين الكائنات المختلفة. وحتّى أولئك المعارضون لنظريّة التطوّر يقرّون بالتطوّرات الصغيرة التي دعمتها اختبارات عديدة، مثل: دراسات الخلايا، البكتيريا، والنباتات، وذبابة الفاكهة وغيرها من الكائنات في المخبر، ويقرّون بأن الانتقاء الطبيعي وغيره من الآليات مثل التكافل (symbiosis)، والتهجين (Hybridization)، قادرٌ على إحداث تغييرات جينية تؤدي الى تغييرات لدى الأفراد على مرّ الزمن.

وبالنسبة للتطوّرات الكبيرة، فإن دراستها تتسم بالطابع التاريخي عن طريق الاستدلال بالحفريات وعينات الحمض النووي عوضاً عن المشاهدات المباشرة. وفي العلوم التاريخية (التي تشمل أيضاً علوم الفلك والآثار بالإضافة إلى علم الأحياء التطوّرية)، فإنّ الفرضيّات تُختبر عن طريق فحص مدى اتفاقها مع الأدلّة المادية ومدى قدرتها على التنبّؤ باكتشافات مستقبلية. على سبيل المثال: تقترح نظريّة التطوّر بأنَه بين أقدم سلف معروف للبشر (منذ ما يقرب من خمسة ملايين سنة)، وظهور الإنسان الحديث تشريحيّاً (قبل حوالي 190،000 عام)، ينبغي للمرء أن يجد سلسلة من المخلوقات تحمل صفاتٍ مرتبطةً أقلّ بالقرود الكبيرة، وتتجه أكثر نحو صفات الإنسان الحديث، وهذا بالفعل ما يظهر في السجلّات الأحفوريّة. ومن غير المعقول مثلاً، أن يجد المرء أحفورة لإنسان حديث في مناطق تعود للعصر الجوارسي Jurassic period (قبل حوالي 144 مليون عام).

المصادر

هنا

هنا

هنا