منوعات علمية > العلم الزائف

علم الأعداد، هل يتنبأ حقاً بصفاتنا الشخصيّة؟

تكلمنا في الجزء الأول من المقال عن تأثر الأسماء بشكلها المباشر، ويمكنكم قراءة المقال من هنا أما مقالنا اليوم فهو عن ارتباط الأسماء بالأعداد، وبدايةً جميعنا نعلم أن الأعداد من أول وأهم ما توصل إليه العقل البشري المتحضر، فمنذ القدم عندما راقب قدماء البابليون الكواكب استخدموا الأرقام في تدويناتهم، كما استخدم كهنة الفراعنة الأرقام للتنبُّؤ بفيضانات النيل، واليوم حياتنا جميعاً تضجُّ بالرقميات، كالأجهزة التي تستخدمونها لقراءة هذا المقال، ومن الناس من يقول أنّنا وصلنا ما وصلناه من التقنيات نتيجة فهم وجهٍ من وجوه الأعداد (علم الرياضيات) الذي بدأ بالآلات بالعمليات الحسابية البسيطة وانتهى بأحدث الأجهزة اليوم (وهذا صحيح إلى حدٍ بعيد)، وبناءً على ذلك يدّعي هؤلاء أننا إن فهمنا "علم" الأعداد سنفهم أنفسنا وكل ما يحيط بنا طالما أن الأعداد كامنةٌ في كل شيء، فما صحة هذا الادّعاء؟

تُنسب بداية "علم الأعداد" لعالم الرياضات اليوناني فيثاغورس (Pythagoras) الذي عاش منذ حوالي 569 قبل الميلاد وحتى 500 قبل الميلاد، وهو صاحب النظرية المشهورة في المثلثات القائمة، ويقول المؤرخون أن إيمان الفيثاغوريّين بالمعاني الغامضة للأعداد جاء بعد عدة اكتشافات دلّت على أن لا مجال للصدفة في الرياضيّات، أهمها أن ناتج مجموع أي سلسلة من الأعداد الفردية المبدوءة بـ1 سيكون حتماً مربعاً كاملاً له جذرٌ صحيح (مثلاً: 1+3=4 و 2=4√، 1+3+5+7+9=25 و 5=25√)، هذا الاكتشاف ونظرية فيثاغورس ومثلها من الاكتشافات التي تعتبر مذهلةً آنذاك أدّى لاعتقاد الفيثاغوريين أن لا مكان للصدفة وأن كل شيءٍ متعلِّقٌ بالأعداد!

تُفسَّرُ هذه الجملة بأنَّ كل ما في العالم مصنـوعٌ من الأرقام ومن الممكن اختصاره بقيمةٍ عددية، واليوم يُعَرَّفُ ما يُسمى بعلم الأعداد، أو علم معاني الأعداد، (Numerology) على أنه العلم المعنيّ بالدلائل الغامضة الكامنة في الأرقام، ووفقاً لما يقوله المُصدِّقون بعلم الأعداد، فإن كل ما في العالم مُعتمدٌ على الخصائص الغامضة للأرقام، وأن الأرقام تكتسب هذه الخصائص من الموجات الكامنة فيها، فلكلِّ رقمٍ موجاته الخاصة التي تمنحه خصوصيته، لذا يدّعي المُصدِّقون بعلم الأعداد بإمكانيّة التنبّؤ بشخصية الإنسان وتصرفاته ومعرفة الشريك الملائم ورقم الحظ ويوم السعد! وذلك بناءً على رموزٍ عدديّة أهمها ما يُستوحى من اسم الشخص نفسه، حيث من الممكن تحليل اسم الشخص بترجمة أجزاء الاسم وأحرفه إلى أرقام (والتي تم مسبقاً ربطها بعناصر الشخصيّة، النجاح المستقبلي، الاهتمامات، والعواطف الخاصة بالإنسان)، وتُحلَّلُ الأسماء بناءً على الاسم الأول، الثاني، الكنية، أو حتى اللقب، ويوجد العديد من أنظمة الترجمة المُستخدمة بعلم الأعداد (كالكلدانية والفيثاغورية، واللفظية، ...إلخ) وجميعها تشترك بالادّعاء بأن الأرقام يمكنها بالفعل أن تحدد شخصياتنا.

الافتراضات الرئيسية التي يستخدمها الخبراء في هذا المجال مبنية على افتراض بأنَّ الجسم البشري بشكل أو بآخر لديه القدرة على اكتشاف وتتبّع رسائل ما مخفيّة في أسمائنا! ومن ضمن الأشخاص المعاصرين الذين درسوا علم الأعداد، الهولندي "هانز ديكوز"، والذي يُعتبر خبيراً في هذا الموضوع، حيث درس علم الأعداد لأعوام كثيرة، ووفقاً لسيرته الذاتية، فهو يعطي محاضرات في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى تدريس "علم الأعداد".

قام ديكوز بتأليف كتاب يسمى "علم الأعداد: مفتاح الوصول إلى ذاتك الداخلية"، وقد اخترع أيضاً برنامج علم الأعداد، الذي يحدد الأعداد الخاصة بك وترتيبها، وكان هذا أول برنامج يقوم بإنتاج رسوم بيانية لهذه الأعداد.

وعليه فقد ظهر ديكوز كرجل صاحب انجازات كبيرة على صعيد الكتابة والتكنولوجيا أيضاً، ولكن هل من الصعب أن نقول بأن هذا الشخص يدّعي علماً زائفاً؟ فهو لم يوضح أين أو متى يعطي محاضراته؟ ولكن يبدو أنَّه أدخل نفسه إلى مجال العلم عن طريق إعطاء دروس في بعض المساقات العلميَّة. وبرغم أن ديكوز لا يكتب بطريقة تنمّ عن شخصيّة متغطرسة أو مدّعية العبقرية، ولم يوجّه أي إهانات إلى زملائه، بل على العكس يبدو كرجل يحب فعلاً ما يدرسه ويعتبر مرجعية في "علم الأعداد"، إلّا أنَّ هذه الصفات كلها لا تؤهله ليكون عالماً بالفعل ولا تجعل من علم الأعداد علماً حقيقياً، فالمقياس الوحيد هو مدى صحّة نظريات هذا العلم.

يفترض بهذا "العلم" إن كان صحيحاً أن تكون عملية ترجمة وتحليل الأعداد قابلة للتطبيق على جميع الأسماء، ولكن في الحقيقة فإن هذه العملية لا تكون صحيحة إلّا في حالات معينة، وهناك تفسيران أساسيان لتفنيد ما يبدو أنّها توقعات صادقة لهذا "العلم":

أولاً، بعض الخبراء في "علم الأعداد" يقومون بحساب الأعداد الخاصة بهم ثم يعيدون ترتيب حياتهم بما يتوافق مع هذه الأعداد ومدلولاتها، وهذا ما يسمى بالنبوءة التي تحقق ذاتها، وهو ذات الأسلوب الذي يستخدمه الكثير من الناس لجعل توقعات أبراجهم اليومية تتحقق بالفعل (للاطلاع على مقالنا عن الأبراج (هنا))، فبعض الناس يقومون بتغيير أسمائهم عندما يقررون تغيير شخصياتهم، وبعضهم يحافظ على اسم ما قبل الزواج ولا يقوم بتغييره خوفاً من أن ينعكس ذلك عليهم ويحدث تغيير في شخصيتهم تبعاً للتغيير في أسمائهم، إضافةً للعديد من الافتراضات المسبقة لدى الناس والتي يفترضونها ثم يراقبونها دوناً عن غيرها فيصدّقونها! حيث في حالتنا (وعلى سبيل المثال) يلاحظ شخصٌ ما رقم حظه أو تأثير المعنى الرقمي لاسمه عليه دوناً عن باقي الأشياء، وهذا ما يُسمّى بمبدأ الانحياز التأكيدي؛ وهو نوعٌ من التفكير الانتقائي الذي يميل بصاحبهِ لملاحظة كل ما يؤكد اعتقاداته المسبقة وتجاهل ما يخالفها! فمثلاً إن قلتُ لك أن الترجمة الرقمية لاسمك تُفضي إلى الرقم 7 وأنه رقم حظّك، ستبدأ أنت بتتبع هذا الرقم وملاحظته في كل مكان؛ في رقم هاتفك ورقم الحي الذي تسكنه وعنوانك البريدي وتاريخ ميلادك وحتى أنك تستخدم لحاسوبك نظام windows 7 ! غير ملتفتٍ لكلِّ الأرقام الأخرى التي تمر معك في كل لحظة، بل وربما ستجعله موجوداً حتى في ما لا يوجد فيه! فإن ولدت في الأول من الشهر السادس ربما ستفكر أن 1+6=7، وبذلك فإن فعلاً هذا الرقم موجود ضمناً في حياتك! لكن، وكدليلٍ على عدم صحّة تنبؤاتٍ تُبنى على هكذا أُسس، من يُثبت أن الشهر الأول هو فعلاً الشهر الأول؟ هل هو مثلاً أول الأشهر التي بدأت بها الأرض بالدوران؟ أم أنه مجرّد اصطلاحٍ بُني عليه التقويم؟ وإن قمت بالعملية الحسابيّة نفسها مُستعملاً تقويماً آخر (كالتقـويم الهجري مثلاً) فهل ستظهر نفس النتيجة؟

ثانياً، "علم الأعداد" يفتقد لدليل حقيقي من أشخاص حقيقيين، فالأشخاص الذين يدعمون صحة هذا العلم يقدّمون أدلّة تتمثّل في أشخاص معينين تتوافق تحليلاتهم العددية مع حياتهم وشخصياتهم. وأكبر مثال مُستخدم هو أدولف هتلر، والذي تشير تحليلاته العددية الى الرقم 666 وهو ما يمثّـل وفقاً لهذا العلم الوحشية أو الشر. وبالرغم من أنَّ هذه التحليلات قد تكون صحيحة بالنسبة لبعض الأشخاص، فإنَّ معظم هؤلاء الأشخاص يعتقدون بأنَّ صحّتها هي من باب الصدفة لا أكثر. وهذا ما يؤكدّه كون هتلر من الأشخاص القليلين الذين صدقت توقعاتهم العدديّة في وصف شخصياتهم وأفعالهم، وأنَّ هذا التحليل جاء بناءً على شهرة هذا الرجل وسمعته المنتشرة حول العالم. هناك الملايين من الناس حول العالم الذين لم يجدوا أي رابط بين تحليلاتهم العددية وبين صفاتهم الشخصية، لذلك لا يمكن التعميم بأن علم الأعداد صحيح إحصائياً. ومع ذلك لا يزال الخبراء في هذا المجال يدّعون بأن الكون يتم تعريفه عن طريق الأعداد، ولا بد ان الإنسان يمكن تعريفه بنفس الطريقة أيضاً.

بناءً على ما سبق، فإنَّ علم الأعداد لديه العديد من الفجوات التي تحول بينه وبين تصنيفه كعلم صحيح، وبرغم أنَّ الجدل القائم حول الرياضيات والطبيعة وتأثيرهما على حياة الإنسان قد يكون منطقياً، إلّا أنَّه لا يوجد ما يكفي من الأدلّة لإثبات صحّته، فالتفسير الأبسط لهذا هو الصدفة! حيث أنّه من المستحيل اعتبار نظرية ما صحيحة لأنها انطبقت على بعض الأشخاص في حين لم تنطبق على الغالبية من الناس، ومن المستحيل أيضاً (على الأقل حتى الآن) إثبات الرابط بين الأعداد وشخصية الإنسان، أو إثبات تأثير الأعداد على الشخص الذي يتبع لها، وبمحاكمة عقلية بسيطة نجد أن تنوع اللغات التي قد تكتب بها الأسماء سيمنحها طرق ترقيم متنوعة (فضلاً عن تنوّع طرق الترقيم)، مما سيعطي بالنتيجة نتائج متنوعة، فترقيم الأبجدية التي يتبعها "علماء الأعداد" يهدد هذا العلم ويجعله موضع تساؤل، ولا يوجد ولو تفسير مبدأي لآلية تأثير الأرقام على شخصيتنا، فهل سماع اسمنا من قبل من ينادينا هو الذي يؤثر على شخصيتنا؟ أم أن اسمنا مخزن في منطقة ما من جسدنا بحيث يُجري تفاعلات معينة تؤثر علينا؟ أسئلة مهمة ولا جواب علمي عليها وكافية لتجعل هذا الكلام علماً زائفاً، حيث لا يوجد أي دليل ملموس على صحته سوى بضعة صدف، فإلى أن تأتي اللحظة التي يجد بها الرياضيُّون بالتعاون مع البيولوجيون وعلماء النفس دليلاً حول تأثير الأرقام على شخصياتنا وحياتنا، يبقى "علم الأعداد" علماً زائفاً غير مثبت علمياً ولا إحصائياً.

ترجمة: شادن اللحام

تدقيق: لينا بني المرجة

مراجعة: محمد الصالح

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا