الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء

عودة أبو منجل للهجرة من جديد

لم يكن الخطر المتمثل باختفاء أبي منجل الأصلع في التسعينات محصوراً بأوروبا فقط بل في الشرق الأوسط وشمال افريقيا؛ الأماكن التي كانت تعج به سابقاً. قامت تركيا في الخمسينات باستخدام الدي دي تي DDT بشكل مكثف؛ الأمر الذي أدى إلى موت العديد من الطيور. التقط دعاة الحفاظ على البيئة في السبعينات والثمانينيات أكثر من 40 طيراً من الطيور المتبقية لمنع هجرتها والسماح لها بالتعشيش والتفقيس. لكن أعداد الطيور البرية استمرت بالتراجع إلى أن أُعلن انقراضها في عام 1990 وماتت مع آخر أفرادها الطريق المتبعة في الهجرة فعدم وجود أحد الطيور المهاجرة سابقاً يــُـفقد أمل الطيور المحبوسة في تركيا بتعلم هجرة الأسلاف.

حاولت حدائق الحيوان تربية طيور أبي منجل الأصلع الشمالي باستخدام طيور متحدرة من أصله الذي يقطن شمال أفريقيا ولدى إطلاق الصغار في البرية لم تكن تتجمع في مجموعات بل تطير حول أماكن منفردة عوضاً عن ذلك.

يوهانس فريتز Johannes Fritz هو اسمي وأنا عالم ألماني أخذت على عاتقي مهمة استعادة الحياة الطبيعية لهذا النوع من الطيور. كانت خطتي محاولة تربية الطيور الصغيرة الفاقسة تربية بشرية على يد طلابي وزملائي ليجري تعليمها الهجرة صناعياً عندما تكبر وذلك لكون الطيور المرباة والمحفوظة لم يسبق وهاجرت من قبل.

فضلت الطيور الاعتماد على آباء جدد للمأكل والحماية بدلاً من البشر وكان من المفاجئ أن استطاعت مجموعة من الطيور بعد عام تقريباً أن تطير لكن ومع الأسف تم التبليغ خلال فترة وجيزة عن طيور ميتة في هولندا، ليتوانيا، شمال ألمانيا وروسيا. لقد كان سبب الطيران المفاجئ هو الـ Zugunruhe وهي كلمة ألمانية تصف حالة التوتر التي تدفع الطيور للهجرة بنتيجة التغيرات الفيزيولوجية المفاجئة كارتفاع هرمون الكورتيكوسترون Corti-costerone. يقنع هذا التوتر الطيور بضرورة هجرة أرضها وأعشاشها والبحث عن أماكن دافئة حيث يتوفر الطعام في فترة الشتاء. يدفع السبب نفسه الطيور في الربيع للهجرة شمالاً للتفريخ حيث يقل الأعداء بفضل قسوة الشتاء.

على الرغم من أن دافع أبي منجل الأصلع للهجرة فطري إلا أنه فقد احساسه بالاتجاه بشكل واضح. ففي سنته الأولى للطيران طار باتجاه الشمال بدلاً من الذهاب إلى الجنوب لتمضية الشتاء. فكر زملائي بإيجاد حل لذلك الخطأ بتعليمهم الهجرة الصحيحة.

حاولتُ لعدة سنوات تعليم طيور أبي منجل الأصلع الهجرة وقد استــُمـِـدت فكرتي من فيلم تدور أحداثه عن بنت ووالدها يقودان سرب إوز للهجرة إلى كارولاينا الشمالية مستخدمين طائرة شراعية. حصلت في الـ 2001 على تمويل من حديقة حيوان فيينا لمشروعي الجديد وحصلت على رخصة في قيادة الطائرة. استخدمت طائرتين قدت إحداها بنفسي وجعلت الطيور تتبع الطائرتين ولكن ما إن قطعتُ 8 كم حتى عادت الطيور إلى نقطة البداية. بدأت عزيمتي تفتر بحلول الـ 2007، فالمعلومات عن هجرة هذا الطير ضئيلة إذ لم يتبقَ من هذا النوع في البرية إلا مستعمرة صغيرة موجودة في سورية وبذلك لم يكن من الممكن جمع المعلومات الكافية عنها.

لم يكن هناك أي سجل تاريخي عن المكان الذي كانت تهاجر له هذه الطيور في أوروبا ولكنني افترضت أن توسكانا (أحد أقاليم إيطاليا) كانت المكان الأمثل لهذه الطيور. رسمت في الـ 2003 مساراً يمر عبر الألب إلى أسفل نهر تاليامينتو Tagliamento ثم إلى البحر الأدرياتيكي وعلى طول الساحل ثم عبر السلاسل الجبلية الإيطالية تباعاً حتى الوصول إلى محميتها الطبيعية. هدفت في ذلك إلى اتباع نقاط علّام واضحة يمكن للطيور تذكرها.

لم تسر أول رحلة للطيور بشكل ناجح فقد كانت أبطئ سرعة للطائرة 60 كم في الساعة بينما أسرع ما قد تطير به طيور أبي منجل الأصلع هي 43 كم في الساعة فما كان بي إلّا أن بقيت محوّماً بانتظار الطيور للحاق بي إلّا أن الطيور وإن بدأت في يوم ما اللحاق بالطائرة إلا أنها كانت تتوقف عن الطيران ساعة تشاء حتى ولو لم تصل إلى النقطة التي نوى فريقي الوصول إليه فما كان بي إلا أن رجوت أصحاب الأراضي للسماح لي بالهبوط والتخييم وأنا انتظرها.

كانت أطول رحلة لهذه الطيور هي 30 كم في اليوم. تعيـّـن على فريقي شحنها في عربات عندما رفضت الطيران كلياً لقطع عدد من الأميال واستمر ذلك الوضع إلى أن وصلنا بالطيور إلى توسكانا.

سار الأمر على ما يرام في الرحلة الثانية حيث استبدلتُ الطائرة السابقة بأخرى أبطئ وسمحتُ باستراحات أكثر في رحلتي ولكن قيادة الطيور عبر الألب كان أمراً شاقاً. اكتشفت في الـ 2007 عدم القدرة على قطع السلسلة، فاستعنت بخبرة أحد الطيارين الذي استبدل الطائرة الثانية بأخرى أشد بطئاً وغيــّـر الطريق إلى آخر أسرع دون المرور عبر الألب حيث اتجه شرقاً عبر سلوفينيا. أدى ذلك إلى نتائج رائعة حيث اتضح أن الطيور لا تحب أن تسافر بشكل مستقيم فذلك يجعلها تشعر بالملل مما كان يستلزم جهداً أكبر للحفاظ عليها متيقظة كما وجدتُ أنها تريد أن ترتفع في التيارات الدافئة، لتستغل التيارات الناشئة عن فروقات درجات الحرارة بين الطبقات مما يسهل انزلاقها دون أدنى مجهود. المفاجأة كانت أن الطيور ذات التربية البشرية تعلم كيف تفعل ذلك كما تفعل النسور واللقالق.

في أحد أيام صيف الـ 2010 طارت الطيور لـ 6 ساعات (أكثر من 260 كم) وهي مماثلة للمسافة التي سجلها العلماء لسفر طيور أبي منجل الموجودة في سورية. نجح 14 طيراً في الوصول بعد 7 أيام طيران إلى توسكانا حيث قضوا الشتاء هناك.

وفي تموز 2011 أخيراً حدث ما كنت أنتظره وهو عودة طير من تلقاء نفسه من توسكانا إليّ، إلى الوطن (بورغهاوسن Burghausen في ألمانيا)، كان اسمه Goja وتبعه البقية بعدها بفترة وجيزة. أظهر نظام تحديد المواقع العالمي بفضل أجهزة للتتبع مثبتة على الطيور أنها سلكت طريقاً مختصرة مباشرةً عبر الألب، وذلك بحفظ المعالم الكبيرة التي دللتهم عليها كنقاط علام. باختصار فقد وجدوا طريقاً أفضل للعودة باستخدام أماكن لم يكونوا فيها قط؛ أي أن الطيور تحتاج فقط لتريها أين ستقضي الشتاء فقط.

فرّخت غوجا Goja في الـ 2012، فكانت أول طير من نوع أبي منجل الأصلع هاجر وفرّخ في أوروبا بعد 400 سنة وهذا ما يعطي قارّتنا فرصة ثانية لتكون موطناً لهذا النوع. للأسف ورغم كل محاولات زملائي للحفاظ على هذا النوع إلا أنه يبقى عرضةً لممارسات الصيادين غير القانونية، إذ أعتقد أن ما بين 49 و102 طيراً قضت على أيدي الصيادين.

قدتُ في الـ 2014 رحلة لقيادة الهجرة لكنني اخترت هذه المرة الطريق التي اختارتها الطيور أنفسها بهدف زيادة الهجرة إلى أوروبا. فقس هذا العام 7 فراخ جديدة في ألمانيا (Burghausen) ويتوقع زملائي أن تكون أوروبا في غضون 5 سنوات مقبلة وطناً لأكثر من 100 أبي منجلٍ أصلع شمالي بري، بفضل جهود فريق علمي كافح حتى تكلل عمله بالنجاح.

المصدر:

هنا

مصدر الصورة:

هنا