البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات

هل اقتربنا من فهم آليات جديدة في التوريث؟ التغيرات فوق الوراثية تسرّع التطور وفهمها يساعدنا في علاج الأمراض

لأكثر من قرن ترسخت لدى العلماء أفكار معينة عن أساسيات الوراثة. منها أنه إذا امتلك الوالدان جينات جيدة تزيد من فرص بقائهم وتكاثرهم فإن هذه الجينات تعبر للأبناء. ولكن مزيداً من الأبحاث الجديدة أظهرت أن هذه العملية أكثر تعقيداً مما كان يُعتقد – فالجينات يمكن أن يتم تعطيلها أو إسكاتها (إيقافها مؤقتاً عن العمل بتغطيتها) استجابة للبيئة ولعوامل أخرى. وفي بعض الأحيان فإن هذه التغييرات يمكنها أيضاً أن تعبر من جيل إلى جيل.
تُدعى هذه الظاهرة بالتغيرات فوق الوراثية Epigenetics، ولكن آليتها لا تزال غير مفهومة بدقة. واليوم يُعتبر عالم الوراثة Antony Jose واثنان من تلامذته أول من فهم الآلية الدقيقة التي يتم بها توريث الجينات في حالةٍ صامتة (جينات موجودة لكنها لا تعمل) إلى الأبناء. والمثير أن الدراسة أظهرت أن هذه الجينات الصامتة قد تقاوم وتستمر بالعبور من جيل إلى جيل، حتى 25 جيل في الدراسة التي قاموا بها!
قد يغير البحث الذي تم نشره مؤخراً من فهمنا لتطور الحيوانات. وقد يساعد في المستقبل في تطوير علاجات لطيف واسع من الأمراض الوراثية.
يقول البروفسور Jose: ’’لطالما أراد علماء الأحياء معرفة كيف يمكن توريث بعض المعلومات المستمدة من البيئة للجيل التالي، وقد أظهرت هذه الدراسة الآلية التي يتم بها ذلك لأول مرة، في مستوى من التنظيم لم نعرفه من قبل لدى الحيوانات‘‘.
عمل البروفسور Jose وتلامذته على نوع من الديدان المدورة الشهيرة لتجارب المخبرية تدعى Caenorhabditis elegans. وفي التجربة قاموا بتعديل على عصبونات الدودة بحيث تنتج جديلة مزدوجة من الحمض الريبي النووي RNA (dsRNA) والتي تتوافق مع جين معين من الـ DNA. وتنتقل جزئيات الـ dsRNA بين خلايا الجسم (ماعدا الخلايا المُنتشة التي تُنتج الأعراس الذكرية أو الأنثوية) وتستطيع إيقاف عمل بعض الجينات حين يتوافق تسلسلها مع قسم معين من الـ DNA.
الاكتشاف الذي قام به العلماء هو أن هذه الجزيئات يمكنها العبور إلى الخلايا المنتشة التي تشكل الأعراس الذكرية والأنثوية ناقلة بذلك هذا التأثير إلى الأجيال القادمة، وأحياناً يستمر هذا التأثير لأكثر من 25 جيل! فإن ثبت وجود مثل هذه الآلية في حيوانات أخرى – وفي الإنسان – فإن هذا يعني أن فهمنا لتطور الأنواع استجابة للبيئة المحيطة سيتغير تماماً! فهذه الآلية تمنح الكائنات إمكانية للتطور بسرعةٍ أكبر بكثير كاستجابة للضغوط البيئية، ويضيف Jose بأنّ علينا في البداية التحقق إن كانت هذه الآلية تستخدم فعلاً في هذا السياق.
هذا التأثير الطويل الأمد لإيقاف الجينات يمكن أن يكون له أهمية محورية في معالجة الأمراض الوراثية. مفتاح ذلك هو آلية تعرف بتداخل الـ RNA (RNA interference واختصاراً RNAi). هذه الآلية هي التي يستخدمها جزيء dsRNA لإيقاف عمل بعض الجينات مؤقتاً. ونفس الآلية تمت دراستها كعلاج محتمل للأمراض الوراثية لأكثر من عقد من الزمن – لأنك تستطيع استخدامها لاستهداف الجينات الممرضة باستخدام جزيئات dsRNA. لكن التحدي الذي واجهه العلماء كان المحافظة على هذا التأثير الموقف لتلك الجينات الممرضة بحيث لا يحتاج المريض لأخذ جرعات عالية ومتكررة من جزيئات الـ dsRNA.

يقول Jose: ’’إن فعالية آلية تداخل الـ RNA (RNAi) تتناقص بعد كل إنقسام تقوم به الخلايا. لكن هذ الجزئيات بالتحديد والمأخوذة من الديدان C. elegans قد تحتوي على تعديلات كيميائية تمكنها من جعل هذه التأثيرات (الموقفة للجينات) تستمر لعدة أجيال. والدراسة المعمقة لهذه الجزئيات ستساعدنا في زيادة فعالية معالجة الأمراض الوراثية باستخدام آلية تداخل الـ RNA (RNAi) التي تستهدف الجينات الممرضة وتوقفها‘‘.

يدرك Jose وجود فجوة كبيرة في التعقيد بين الديدان المدروسة والبشر. فخلافاً للكائنات البسيطة فإن الثدييات تمتلك آليات معروفة تقوم بإعادة تفعيل الجينات الصامتة في كل جيل. مبدئياً قد يعني ذلك استحالة عبور التأثيرات المطلوبة (الإيقاف المؤقت لبعض الجينات) للأجيال القادمة. لكن مع ذلك فالكثير من الأدلة السابقة تؤكد قدرة البيئة المحيطة بالكائن في التسبب ببعض التغيرات الجينية العابرة للأجيال في الثدييات أيضاً ومنها الإنسان، ويمكن للمهتمين قراءة المزيد عن التغيرات فوق الوراثية لدى الإنسان هنا و هنا و هنا و هنا و هنا . يؤمن Jose بأنه وفريقه يقومون بأبحاث واعدة في هذا المجال لتفسير الآلية التي يتم بها كل ذلك.
يختم Jose قائلاً: ’’يعد هذا المجال العلمي مجالاً خصباً يمكن أن يشغلنا لعشرة سنوات قادمة. والهدف هو الحصول على فهم واضح لكل الآليات التي تستخدمها الكائنات أثناء تطورها‘‘.
هوامش:
صورة 1
هذا الرسم التوضيحي يظهر آلية إيقاف الجينات في الديدان C. elegans. تستطيع العصبوبات (باللون الأرجواني) تحرير جزيء مضاعف من الـ RNA (السهم البرتقالي) الذي يتطابق مع تسلسل جين معين (اللون الأخضر) في الخلايا المنتشة (التي تنتج الأعراس الذكرية والأنثوية). دخول هذه الجزيئات إلى الخلايا المنتشة يعني إيقاف عمل الجينات المحددة في الأعراس الذكرية والأنثوية وعبوره للجيل القادم. وهذا التأثير قد يستمر لـ 25 جيلاً حسب الدراسة.
صورة 2
الدودة المدورة من نوع C. elegans الموضحة بالرسم أعلاه تستخدم بكثرة في المخابر لأنها تتكاثر بسرعة ولها جسم بسيط تسهل دراسته.
معلومات إضافية:
جزئيات الـ RNA المضاعفة تستطيع دخول الخلايا المنتشة المنتجة للأعراس منتجة تأثيراً جينياً عابراً للأجيال.

المصدر: هنا