الفيزياء والفلك > فيزياء

هل سنميز الماضي عن المستقبل لو كان كوننا أكثر بساطة؟

لا تعتمد القوانين الحالية للفيزياء –كما نعتقد- على اتجاه الزمن، ولكن لماذا إذاً يختلف المستقبل كثيرا عن الماضي؟ لقد حيرت فكرة " سهم الزمن" الفيزيائيين والفلاسفة لما يزيد عن القرن، ولا تزال إحدى المسائل في المفاهيم الأساسية في الفيزياء الحديثة. وعلى الرغم من أن هنالك اتجاها مفضلا للزمن يظهر في بعض النماذج الحاسوبية مثلا لبعض المنظومات الفيزيائية، إلا أن هذا يحصل فقط في حال أخذنا بعين الاعتبار شروطاً ابتدائية خاصة جداً.


أظهر جوليان باربر وزملاؤه من جامعة أوكسفورد أن ذلك ليس شرطاً اساسياً للحصول على سهم للزمن (اتجاه محدد للزمن) وذلك في منظومة من الكتل المتفاعلة مع بعضها عبر قوة الجاذبية النيوتونية ( أي الجاذبية الموصوفة بقوانين نيوتن تمييزا لها عن الجاذبية الموصوفة بالنسبية العامة لآينشتاين ). وشرحوا أنه خلال التطور الزمني لهذه المنظومة البسيطة، هنالك دوماً لحظة فريدة تكون المنظومة عندها في أبسط درجة من التعقيد، وقد أطلقوا على هذه اللحظة صفة " الماضي " والتي يبدأ بعدها مستقبلين مختلفين بالظهور ( وتكون المنظومة خلالهما أكثر تعقيدا ).


هذا البحث هو أحدث محطات فريق بحث باربر و زملاؤه في سلسلة طويلة من الأعمال التي حاولت شرح سهم الزمن. أحد الاحتمالات بالطبع، هو عدم معرفتنا إلى الآن القوانين الأساسية للفيزياء التي ينتج عنها اتجاه محدد للزمن (ذلك لايعني أننا نعتبر القوانين المعروفة حالياً خاطئة ونبدأ بأخذ بعض الفرضيات المضحكة بعين الاعتبار). أما الاحتمال الآخر فهو أنه إذا كانت قوانين الطبيعة ليست هي السبب في ظهور "مستقبل" دون الآخر، فقد يكون ذلك نتيجة للشروط الحدية ( أي الظروف السائدة عند اللحظة التي نعتبرها النقطة الأولى على المخطط الزمني لتطور المنظومة ). فعلى سبيل المثال، تفترض معظم النظريات الكونية، بشكل حصري واضح أو ضمنياً، أن لحظة الانفجار الكبير كانت منخفضة الانتروبية بشكل كبير.


وبالفعل فإن معظم الفيزيائيين يقبلون وجهة النظر القائلة بأن اتجاه الزمن هو اتجاه ازدياد الإنتروبية ذاته. ( يمكن إلى حد ما اعتبار الإنتروبية هي مقياس عشوائية منظومة فيزيائية معينة، أي عدد الاحتمالات الممكنة التي تتموضع وفقها مكونات هذه المنظومة بالنسبة لبعضها. وفي المنظومات الفيزيائية المغلقة - الكون مثلا – تزداد الإنتروبية دوما ومن المستحيل أن تتناقص). ولكن - و في أحسن الأحوال - تبقى هذه الصورة ناقصة، لفشلها بتفسير سبب وجود ظروف نادرة للإنتروبية المنخفضة في الماضي. منذ ما يزيد عن القرن اقترح بولتزمان فكرة تقول بأن الكون المرئي لنا قد يكون مجرد حالة إحصائية مؤقتة منخفضة الإنتروبية تؤثر على جزء بسيط من منظومة متوازنة أكبر بكثير. في هذه الحالة فإن اتجاه الزمن هو ببساطة ذاك الاتجاه الذي يعود بنا إلى حالة التوازن، إلا أن معظم الفيزيائيين المعاصرين يرون أن هذا التفسير غير مقنع؛ إذ أن الحالة الإحصائية العشوائية المؤقتة التي تحتوينا هي أبعد ما تكون عن القدرة على إنتاج مجرة واحدة، بل كوكب واحد، لا بل وحتى مجرد " دماغ "، فما بالك بكون بأكمله. بالإضافة إلى ذلك إذا افترضنا أن لحظة ما، هي الأقل انتروبيةً فبالتالي يجب أن تزداد الأنتروبية في كلا الاتجاهين: الماضي والمستقبل، معطية سهمين منفصلين للزمن.

وجد باربر و زملاؤه في نموذج الجاذبية خاصتهم، حالة " منخفضة التعقيد " شبيهة بحالة بولتزمان ذات الإنتروبية المنخفضة. إلا أن حالتهم هذه لا تطلب شروطا إحصائية نادرة لتفسيرها بل على العكس من ذلك، تظهر حالتهم بشكل طبيعي من قوانين فيزيائية بسيطة لا تعتمد صراحة على اتجاه الزمن. فقد درسوا إحدى أبسط المنظومات الفيزيائية الممكنة: مجموعة مؤلفة من عدد من الجسيمات النقطية التي تتفاعل فيما بينها بالجاذبية النيوتونية. افتراضاتهم الوحيدة كانت التالية : الطاقة الكلية للمنظومة ( الكامنة و الحركية ) تساوي الصفر ، و العزم الزاوي الكلّي للمنظومة يساوي الصفر. من المعلوم وفقا لدراسات سابقة ومحاكاة لمثل هذه المنظومة، بأنها تسعى في المستقبل البعيد لها لأن تتفكك إلى جمل صغيرة ضعيفة التأثير فيما بينها، وتحديدا ستتحول إلى منظومات صغيرة كل منها مؤلف من جسيمين فقط يتحركان بالنسبة لبعضهما بمدارات كبلرية ( نسبة إلى العالم كبلر وهو أول من قال بالمدرات الإهليلجية للكواكب حول الشمس ). قد يعتقد المرء أنه انطلاقا من هذه المنظومة المبعثرة وبالعودة فيها بالماضي فسنصل إلى حالة عالية الكثافة، وقد أثبت باربر وزملاؤه صحة هذا الاعتقاد بشكل تحليلي؛ فمن أجل جميع الاحتمالات الممكنة – تقريبا – للتموضع الابتدائي للجسيمات بالنسبة لبعضها، هناك لحظة فريدة تكون فيها الجسيمات متجمعة بأصغر حجم وأكبر انتظام. وانطلاقا من هذه النقطة، تبدأ المنظومة بالتوسع بشكل متناظر تقريبا في كلتا جهتي الزمن. فالمنظومة إذا متناظرة زمنيا، كما تتوقع المعادلات، و تمتلك سهما ذاتيا للزمن.

قام الباحثون بتحليل تطور هذه المنظومة من الكتل ضمن ما يعرف بـ " فضاء الشكل" أو Shape Space وهو فضاء يتم فيه وصف شكل المنظومة بغض النظر عن قياسها و توجهها في الفضاء. فعلى سبيل المثال، يتشكل مثلث من مجموعة من ثلاثة أجسام، فيكون فضاء الشكل بالنسبة لهذه المنظومة هو جميع أشكال المثلثات المشابهة للمثلث المتشكل. يحتوي فضاء الشكل على قياس طبيعي لشدة تعقيد المنظومة، ويرمز له ب CS وهو مقدار لا واحدة له، ويحدد بعزم العطالة و بالطاقة الكامنة الثقالية النيوتونية الكلية للمنظومة. يقيس الـ CS درجة عدم الانتظام و التكتل؛ ويكون ذو قيمة صغرى عندما يكون الحجم أصغر ما يمكن، ويزداد تدريجيا ابتداء من هذه القيمة الصغرى في كلا اتجاهي الزمن. يوفر باربر و زملاؤه تفسيرا بسيطاً و حدسياً لهذا التصرف بإظهار أن المعادلات التي تصف ديناميكية منظومة مؤلفة من عدد من الأجسام تحوي حدّ احتكاك فعال بين حدودها، يؤدي إلى نوع من التبديد بالرغم أن المعادلات الناظمة لهذه الحركة متناظرة زمنيا.


إن فكرة التقدم بزمنين مختلفين نحو مستقبلين مختلفين انطلاقا من لحظة يكون فيها تعقيد المنظومة بحالته الدنيا، ليست فكرة جديدة بحد ذاتها، فهي مثلا موجودة في نماذج التضخم الأبدي للكون. إلا أن ظهورها في منظومة بسيطة كالتي اقترحها باربر و زملاؤه هو الذي لم يكن متوقعا. من المهم التأكيد على أن هذا النموذج هو نيوتوني، فليس من الوضح بعد إمكانية توسيعه ليشمل وصف النسبية العامة للجاذبية، رغم أن الباحثين اقترحوا إمكانية استخدام " ديناميك الشكل " و هي صيغة من صيغ النسبية العامة لا تعتمد على شكل الجملة المدروسة.

هل قام باربر و زملاؤه بحل مشكلة سهم الزمن ؟ غالبا ليس بعد. فنحن لا نزال أمام لغز سهم الزمن الذي نراه في مختلف الظواهر الفيزيائية يصب في الاتجاه ذاته. فالنوى المتفككة إشعاعيا لا تتشكل من جديد، و منظومات الجاذبية تتكتل ولا تتشتت، و نحن نتذكر الماضي و ليس المستقبل. إن المطلوب هو عمل حثيث لإظهار أن أسهم الزمن المختلفة هذه تتفق جميعها بالاتجاه المحدد لها وفق نموذج جاذبي صرف. مع ذلك، توفر نتائج باربر و زملاؤه وجهة نظر جديدة و مختلفة. فالوصول إلى سهم الزمن يحتاج عادة إلى حالات إحصائية نادرة، أو التحايل على فرضيات الشروط الابتدائية للمنظومة.

 يقدم عملهم دليلا على أن ديناميكية الجاذبية العادية قد تكون لوحدها كافية لإنتاج نقطة " ابتدائية " بسيطة تمنح للزمن جهة محددة.

المصدر: هنا