الطبيعة والعلوم البيئية > الأرض من السماء

الجغرافيا والحرب

الجغرافيا، مادّة غير مشوّقة بالنسبة للكثيرين ، ولكن ماذا لوعلمنا بأن الجغرافيا، والقدرة على رسم الخرائط الدقيقة وتحليلها، هي من أهم الأسلحة المُستخدَمة في الحرب، بهدف التحضير لها – أقصد الحرب – و القيام بها ومن ثم التلاعب بنتائجها ؟

ربّما ستحوز الجغرافية على اهتمامك ولو لدقائق ، مدّة قراءة هذا المقال المختصر الذي يتناول الجغرافيا كما لم تعهدها من قبل بعيداً عن نمطيّة مناهج الدراسة . "المعرفة بالخرائط تسمح بتسيير الحرب عن طريق التحكّم عن بعد ، حيث يصبح القتل أكثر سهولة إن صحّ القول. فالخرائط العسكرية لا تقوم فقط بتسهيل سير الجوانب التقنية من المعركة، ولكن أيضا تخفّف الشعور بالذنب الذي ينشأ بسبب خوض الحرب ،حيث أنّ الخطوط الصامتة على الخرائط تعزّز مفهوم المساحة الفارغة اجتماعيا." من كتاب : الطبيعة الجديدة للخرائط، للجغرافي الانكليزي جون هارلي.

ويوضح إيف لاكوست، الجغرافي الفرنسي، في كتابه : الجغرافيا تستخدم أولاً لصنع الحرب ، الذي صدرت أول طبعاته في 1976، أنه قبل انتشار صور الأقمار الصناعية للعموم، كانت العديد من الدول، خصوصاً الإشتراكيّة منها، تحصر إمكانية الحصول على الخرائط الدقيقة والتفصيلية فقط في الأشخاص الموثوقين، الذين كانواغالباً من الشرطة أوالجيش. حتى طلاب الجغرافيا لم يكن بإمكانهم الحصول عليها. مضيفاً أن الكثير من حكومات دول العالم الثالث وقتها كانت تمنع بيع هذا النوع من الخرائط في فترات الاضطرابات الداخلية ، مما يوضح أهميّتها من حيث المزايا الاستراتيجية التي تعطيها لحاملها.

بالمقابل، لم تمنع البلدان الليبرالية تداول هذه الخرائط. ويضيف أيضاً بأنّ هذه الخرائط ليس لها أية قيمة بالنسبة للأشخاص اللذين لم يتعلموا كيفية قراءتها واستخدامها، فقيمتها بالنسبة لهم كقيمة نصٍّ مكتوبٍ بيد شخصٍ أميٍّ. هذا الكلام لايعني أن قراءتها أمرٌ بالغ التعقيد، إنما يعني أنها فقط معرفة يجب تعلمها.

في شباط عام 1942، سارع الأمريكيون إلى المتاجر والمكتبات لشراء خرائط للعالم. جاء هذا نتيجة لطلب رئيسهم وقتها، فرانكلن روزفيلت، خلال إلقائه الرسالة التالية عبر المذياع: "هذه الحرب هي نوعٌ جديد من الحروب. مختلفة عن جميع الحروب الأخرى في الماضي، ليس فقط في وسائلها والأسلحة المستخدمة فيها ، ولكن أيضا في جغرافيّتها. فهي حربٌ في كلّ قارّة، كل جزيرة، كل بحر وكل بقعة يمر فيها الهواء في العالم. وهذا هو السبب الذي من أجله طلبت منكم أن تنشروا أمامكم خريطة الأرض كلّها وأن تتبعوا معي خطوط المعركة في العالم."

من المعروف عن الشعب الأميركي ضعفه في مجال الجغرافيا من حيث معرفة أماكن البلدان، ربما لهذا طلب منهم رئيسهم أن يضعوا خريطة للعالم أمامهم مدركا أهمية جغرافيا هذه الحرب لكي يرى المواطنون ويفهموا قراراته المتعلقة بها، وبالتالي تزداد قناعتهم بضرورة الانخراط في هذه الحرب على نطاق واسع، الأمر الذي كان الكثير من الأميركيين ضده خصوصاً وأن ذكرى مآسي الحرب العالمية الأولى مازالت عالقة في أذهان الكثيرين منهم. خطاب روزفلت هذا في سياق الحرب العالمية الثانية أحدث تغيّراً في طريقة تفكير الأمريكيين حول الجغرافيا. فارتفعت مبيعات الخرائط بشكلٍ كبير جداً، و بدأت المؤسسات التعليمية على جميع المستويات بالترويج لتدريس الجغرافيا، وانتشرت الخرائط بكثافة في الصحف وبدأ تعليقها بشكل بارز في القاعات الدراسية، والمنازل والساحات العامة.

لنأخذ مثال الضربات الأمريكية على المدن اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية حيث استحوذ قسم الجغرافيا في مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) في الإدارة الأمريكية على مجموعة من الخرائط والأطالس، أهمّها من إنتاج اليابان الذي قامت حكومته على مدى عقود بإرسال المسّاحين للقيام بعمليات مسح دقيقة للأرض عبر إمبراطوريتها. لهذا السبب يمكننا القول بأن اليابان ساهم بتدمير نفسه من خلال إنتاجه للخرائط. فعلى سبيل المثال، الخريطة الدقيقة والمفصلة لمدينة طوكيو (خريطة 1) كان من المستحيل إنتاجها من قبل ال OSS في 1944 لو لم يكن في حوزة رسامي الخرائط الأمريكيين العديد من خرائط العاصمة اليابانية تحت تصرّفهم. بالاضافة إلى أن قسم الجغرافيا في ال OSS قام برسم الكثير من الخرائط التي تظهر تمركز الصناعات والفحم الحجري والسكك الحديدية وغيرها في اليابان مما جعل مهمة قصف هذا البلد أكثر دقة وسهولة.

خريطة 1. خريطة طوكيو

City Plan of Tokyo، October 1944 e OSS Map no. 5279. Source: U.S. National Archives، Cartographic and Architectural Section، Record Group 226: 330/20/8.

بالاضافة إلى الاعتماد على الخرائط المرسومة في اليابان، قام الطيران الأمريكي بتجميع الكثير من المعطيات لكي تُستخدم في رسم خرائط جديدة دقيقة. مثال على ذلك: في العام 1944 حلّقت بعض الطائرات الأميركية على ارتفاع 9800 متر فوق طوكيو والتقطت أكثر من 7000 صورة. تمت معالجة هذه الصور في جزر جوام في المحيط الهادي. لاحقاً أعلن الجنرال الأمريكي هايود هانسل أنه لولا هذه الصور والخرائط التي نتجت عنها لكان الجيش بدون أي معلومات يهتدي بها. وقد أضاف بأن مهمات التصوير هذه كانت ربّما أهم مساعد في الحرب الجوية على اليابان.

خريطة 2. مثال عن خريطة أهداف قوى الطيران الأمريكية تم استخدامه في الحرب العالمية الثانية خلال قصف اليابان

AAF Target Japan No. 18 e Osaka، July 1942. Source: Branner Library، Stanford University.

كانت خرائط المدن مكوناً أساسياً من مكونات عمليات إلقاء القنابل الحارقة على المدن اليابانية ، وكانت أساسيّة أيضاً في الطريقة التي تم عرض الدمار بها بعد ذلك. فبالطبع، لم ينتهي عمل رسّامي الخرائط الأمريكان مع استسلام اليابان عام 1945 حيث بدأوا رسم خرائط أكثر دقة من الداخل. هذه الخرائط أوضحت حجم الدمار الهائل الذي أحدثته الضربات الأمريكية في المناطق المدنية، الصناعية والعسكرية منها. أمّا بما يتعلق باستهداف الأماكن المدنيّة، فقد كان هنالك بعض التضارب في الآراء والتصريحات والذي انعكس من خلال الخرائط أيضا. في البداية، كانت السياسة الأمريكية المعلنة مبنية على عدم استهداف المناطق المدنية ولكن مع اشتداد وتيرة الحرب، ووصول الأخبار عن المجازر التي قامت بها الجيوش اليابانية في الصين خصوصاً، ازداد تقبّل الضربات على المناطق المدنية وأصبحت الخرائط تركز وبشكل واضح على حجم الدمار في هذه المناطق، من خلال خرائط مخصصة فقط لعرض حدود المدينة وحجم الدمار الذي ألحقه بها سلاح الجو الأمريكي (خريطة 3).

يعلّق فيدمان وكراكس في دراستهما المعمّقة على هذه الخريطة قائلين بإنها عرضٌ صريح لتدمير المدينة بشكل كأنه تكتيك عسكري مبرَّر في حالة الحرب. كان سلاح الجو الأمريكي في كثير من الأحيان يغطي تدمير المدن الكبرى من خلال وضع أهداف عسكرية محددة داخلها. لكن لا يمكن أن يتم تطبيق هذا الأمر بسهولة عندما يتعلق الأمر بالمدن الصغيرة مثل مدينة كوفو حيث أوضحت بعض الخرائط أن هدف الضربات كان المركز المدنيّ للمدينة. بالمجمل، فإنّ الرأي العام والتصريحات والخرائط تضاربت بين عرض وتبرير وقبول للضربات على المناطق المدنية، كشكلٍ طبيعي للحرب، وبين محاولة تخفيف حدتها من خلال خرائط تعرض اليابان بفنّه وتراثه وكأنّ شيئاً لم يحصل (خريطة 4).

هذه الخريطة، التي لا نرى فيها أي إشارة للدمار، تمّ وضعُها في "دليل اليابان للجيش الأمريكي" الذي وُزِّع على ال 350000 جندي أمريكي الذين تم إنزالهم في اليابان إبّان استسلامه.

الخلاصة: الخرائط، وفقا للغرض الأصلي والجمهور المستهدف، تأكد، تعلن أو تحجب الدمار.

خريطة 3. خريطة تقرير الدمار لمدينة كوفو

Damage Report Map of Kofu City، July 1945، XXI Bomber Command، U.S. National Archives، Record Group 243، Series 59، Box 5.

خريطة 4. اليابان بعد الحرب

Map of Honshu، Japan. Source: Guide to Japan، U.S. Army، September 1945.

المراجع:

Fedman، D.، & Karacas، C. (2012). A cartographic fade to black: Mapping the destruction of urban Japan during World War II. Journal of Historical Geography، 38(3)، 306-328.

Harley، J. B. (2002). The new nature of maps: essays in the history of cartography (No. 2002). JHU Press.

Lacoste، Y. (2014). La géographie، ça sert، d'abord، à faire la guerre. La Découverte.

Presidency (1942). 23 - Fireside Chat February 23، 1942، هنا retrieved on 20/01/2015.

مصدر صورة المقال:

هنا