الفيزياء والفلك > فيزياء

التباعد Divergence: هل هو معقد إلى هذه الدرجة

الفيزياء علمٌ أحد أدواته الرياضيات؛ لكن غالباً ما تواجهنا تعابير رياضية نتعامل معها كثيراً في الفيزياء دون أن نحصل على فهمٍ كاملٍ لما تعنيه وهذا الأمر يُبرر نسياننا لها بعد فترة وجيزة. هنا يُطالعنا سؤال غاية في الأهمية: هل علينا تحليل الصيغ الرياضية المعقدة بأسلوبٍ ما أو بآخر من أجل حفظها لاسترجاعها لدى الحاجة؟ أم أن هذه الصيغ الرياضية مهما تعقدت فإنه من الممكن فهمها دوماً، لأنها في النهاية تدرس ظاهرة نشاهدها بأم عيننا، بل أكثر من ذلك، فنحن نقوم برصدها وقياسها.

حسناً، لنفترض أنك في مواجهة مع تعبير رياضي غاية في التعقيد. أنت تجد صعوبة في النظر إليه ككل وفهمه، لكنك تعرف مكوناته الفردية والعمليات الموجودة فيه –على سبيل المثال، أنت تعرف أننا نقوم هنا بجمع شيئين معاً، وهناك بضرب ثلاثة كميات معاً، الخ. كيف ستفهم هذا التعبير، أو تلك المعادلة؟

في الحقيقة، نقف في معظم الأحيان لساعات وساعات أمام معادلات رياضية محاولين تفكيك رموزها وفهم نتائجها وبعد ساعات طويلة من العمل، نصل إلى النتيجة التي تُلخصها عبارة "وأخيراً فهمت".

في الفيزياء، يُوجد عدد كبير من المفاهيم التي تظهر دوماً في كافة أقسامها، فهي تمتد انطلاقا من الفيزياء الكلاسيكية التي تدرس ميكانيك الأجسام، مروراً بالكهرومغناطيسية، وصولاً إلى ميكانيكا الموائع، ميكانيكا الكم والنسبية العامة.

التباعد (divergence) واحدٌ من بين تلك المفاهيم وغالباً ما تبدو المعادلات التي تحتويه معقدة مع زيادة صعوبة الموضوع. نعرف من الكهرومغناطيسية أنَّ تباعد الحقل المغناطيسي يساوي الصفر (معادلة ماكسويل الثانية) وأن تباعد الحقل الكهربائي يُساوي أيضاً مقداراً معيناً (معادلة ماكسويل الأولى).

كذلك الأمر في ميكانيك الموائع، إذ أننا نعرف بأن تباعد حقل سرعة مائع (سائل أو غاز) يساوي مقداراً معيناً (معادلة الاستمرارية).

في النسبية العامة ودراسة الجاذبية نعرف بأن تباعد الحقل الثقالي أو الجاذبية يُساوي مقداراً معيناً أيضاً، لكن غالباً ما تكون تلك التعابير معقدة جداً عند النظر إليها؛ وفي الحقيقة هذا ما نقوم به، فنحن ننظر إلى المعادلة الرياضية ونحاول استذكار طرق الحل الرياضية؛ ومن ثمَّ نبدأ بالحل محاولين الوصول إلى نتيجة ما ولا نقوم غالباً بالوقوف أمام الجوهر الفيزيائي لتلك الظواهر.

حسناً، يضعنا تكرار كلمة "التباعد" في مجال واسع من الاختصاصات في الفيزياء أمام حقيقة مفادها أن شيئاً مهماً ما يختبئ وراء هذه الكلمة؛ وهذا الشيء هو ذاته من حيث أسلوب التصرف في الأقسام المختلفة، لكنه يمتلك أسماء مختلفة عند الانتقال من قسم لآخر.

ببساطة مطلقة، يُمكن حتى لأي إنسان غير مختص أو مهتم بالرياضيات أو الفيزياء أن يرى ويفهم هذا المبدأ المعروف بالتباعد حتى في مطبخه؛ وبدايةً لنفترض أن الأعمال المنزلية تراكمت عليك وأنك بحاجة للقيام بتنظيف منزلك من كافة أنواع الفوضى الموجودة فيه؛ وطبعاً كما نعرف جميعاً يخرج إلى ذهننا مباشرةً "المطبخ"، فقد اقترن هذا المكان في ذهننا دوماً مع الفوضى وعدم العناية بالمنزل؛ ولذلك من الطبيعي أن تتجه إلى المطبخ لتقوم بتنظيفه قبل أي شيء آخر؛ فمطبخ نظيف يُقدم راحة نفسية لساكن المنزل ويُشجعه على القيام بواجبته الأخرى في المنزل وأيضاً على فهم التباعد.

حسناً، ما هو أول شيء تلاحظه عند دخولك لتنظيف المطبخ؟

إنه حوض الجلي، أليس كذلك؟

تذهب مسرعاً إلى الحوض وتقوم بغسل الصحون والأطباق وغيرها من الأغراض المنزلية ومن ثمَّ تُنظف الحوض وفجأة يستوقفك منظره مملوءاً بالماء فتعرف مباشرةً أن هناك شيء ما سدَّ مصرف المياه ومنع المياه من الخروج فتقوم بتنظيف المصرف لتخرج المياه منه؛ وبعد وقت قليل يفرغ الحوض من كل كمية المياه التي كانت موجودة فيه، طبعاً إذا لم يكن صنبور المياه مفتوحاً؛ هنا تماماً يُمكننا فهم مبدأ التباعد ومن ثمَّ سحب هذا الفهم ليشمل كافة أقسام الفيزياء.

لحوض المياه حجم محدد تماماً؛ إذ تدخل المياه إلى هذا الحوض قادمةً من المنبع (الصنبور) وتخرج من الحوض عبر المخرج (المصرف). عندما يكون المصرف مفتوحاً والصنبور مغلقاً تبدأ المياه بالخروج عبر المصرف وبالتالي تتناقص كميتها في الحوض؛ يُمكنك تخيل جزيئات المياه وهي تتجه نحو المصرف؛ فعند مسافة بعيدة عن المصرف يكون البعد الفاصل بين جزيئيين من جزيئات المياه محدداً ولكن مع اقتراب هذين الجزيئيين من المصرف تتناقص المسافة الكائنة بينهما ويصبح مساري الجزيئيين أشد تقارباً من بعضهما كلما ازداد الاقتراب من المصرف؛ إذاً كيف نُعبر عن هذا التناقص في حوض المياه؟

حسناً، نقول بأنَّ تباعد حقل السرعة الخاص بجزيئات المياه أصغر من الصفر عند نقطة معينة؛ ويُمكنك مباشرةً من هذا الحديث فهم أن كمية المياه تتناقص في الحوض وبالتالي لابد من وجود مصرف ما في الحوض خرجت منه المياه عند تلك النقطة؛ وهذا هو مفهوم التباعد السالب، فعندما نقول أنَّ حقلاً ما تباعده سالباً: يعني ذلك أن هذا الحقل يتم التخلص منه في مكانٍ ما ندعوه بالمصرف.

من ناحية أخرى، لنفترض أن المصرف مسدوداً وأن صنبور المياه مفتوح؛ ما يجري في هذه الحالة أن كمية المياه تزداد في حوض المجلى بشكلٍ مستمر؛ ونلاحظ إذا اقتربنا أكثر من فوهة صنبور المياه أن المسافة الكائنة بين جزيئيين من جزيئات الماء الخارجة من الصنبور تزداد مع ابتعاد تلك الجزئيات عن مسقط فوهة الصنبور على سطح الحوض؛ أي أن المسارات الخاصة بجزيئات المياه يزداد التباعد بينها كلما ابتعدنا عن فوهة الصنبور؛ وهي حالة معاكسة للحالة الأولى التي افترضنا فيها وجود مصرف مفتوح فقط، حيث تتناقص المسافة الكائنة بين مسارات المياه كلما اقتربنا من المصرف؛ في هذه الحالة نقول أن تباعد حقل السرعة الخاص بجزيئات المياه أكبر من الصفر أو موجب وببساطة تستنتج هنا وجود منبعٍ ما ولا بد وأن المياه تنتج عن هذا المنبع.

إذاً، لو أخبرك أحدهم بأن تباعد حقل ما هو أكبر من الصفر أو موجب، يعني ذلك أن ذلك الحقل ينتج عن مصدر محدد تماماً ومعروف أو يُمكننا معرفته.

هل يُمكنك الآن شرح الحالة التي يكون فيها تباعد حقل السرعة الخاص بجزيئات الماء في الحوض مساوياً للصفر؟

نعم، يُمكنك القيام بذلك؛ وبسهولة ستستنتج أنَّ المصرف مسدود وأن الصنبور مغلق! لكن لماذا؟

ببساطة لأنه عندما يكون التباعد صفراً، فإن المسافة الكائنة بين المسارات التي ترسمها جزيئات الماء تكون ثابتة وبالتالي فتلك المسارات لا تتباعد جراء انطلاقها من مصدرٍ ما (الصنبور مغلق في حالتنا هذه)؛ ولا تتقارب جراء توجهها نحو مصرفٍ ما (فمصرف الحوض مغلق هنا) –باختصار: إما الحركة معدومة وبالتالي السرعة معدومة والتباعد معدوم أو أن الحركة منتظمة وبالتالي البعد بين المسارات ثابت، أي أن التباعد معدوم.

بعد المناقشة السابقة، أصبحت على معرفة قوية جداً بمفهوم التباعد؛ ويُمكنك بالتالي الانتقال به إلى كل أقسام الفيزياء ويُمكنك أن تلخص الأمر كالتالي: يعني التباعد السالب للحقل الكهربائي وجود شحنة كهربائية سالبة تتجه نحوها خطوط الحقل الكهربائي (الشحنة السالبة هي المكافئ لمصرف الحوض، إذا تتراكم عندها خطوط الحقل الكهربائي)؛ اما التباعد الموجب للحقل الكهربائي فيعني وجود شحنة كهربائية موجبة تنطلق منها خطوط الحقل الكهربائي (وهي المكافئ لصنبور المياه في حالة الحوض).

طبعاً يُمكن لأحدهم أن يخبرك بأن تباعد الحقل الكهربائي ضمن حيز ما هو صفر، ماذا تستنتج حينها؟ كذلك في حالة الحقل المغناطيسي فإن تباعد خطوط الحقل المغناطيسي هي صفر دوماً بصرف النظر عن الحيز الذي نوجد فيه؛ هل يُمكنك استنتاج شيء ما من هذا الأمر –حاول العودة إلى مثال حوض الجلي؛ لتقوم بالتالي باكتشاف الإنجاز العظيم الذي توصل إليه ماكسويل؛ هل يُمكنك القيام بذلك؟

سترى أنه في حالة الحقل الكهربائي فانعدام التفرق يعني كما في حالة انعدام التفرق في حوض الجلي: عدد المنابع يساوي عدد المصارف أي عدد الشحنات السالبة يساوي حدد الشحنات الموجبة ضمن منطقة معينة من المكان. ليست هذه الحالة صحيحة دوماً في حالة الحقل الكهربائي فقد توجد منطقة من الفراغ تحوي شحنات موجبة أكتر من السالبة أو العكس. ولكن ماذا عن الحقل المغناطيسي؟ هذه الحالة صحيحة دوماً وتعني نتيجة هامة في المغناطيسية: عدد المنابع يساوي دوما عدد المصارف. أي بالتالي لن يمكننا عزل "شحنات مغناطيسية" شمالية فقط أو جنوبية فقط. قد تصادم في حياتك اجساماً مشحونة بشحنات موجبة فقط أو سالبة فقط. ولكن في حياتك اليومية لن تصادف مغناطيساً شماليا فقط أو جنوبيا فقط. هذه هي النتيجة الهامة المترتبة على أحد معادلات ماكسويل التي تقول أن تفرق الحقل المغناطيسي دوماً معدوم.

لننظر الان إلى النسبية العامة: يتمتع حقل الجاذبية بأهمية كبيرة جداً وكلنا يعرف بأن أي جسم يؤثر على جسم آخر بقوة تتناسب طرداً مع كتلة الجسمين وعكساً مع مربع البعد الفاصل بينهما؛ وبمجرد وجود كلمة قوة فنحن نتحدث عن حقول وبالتالي عن اتجاهات وأشعة ومن ثمَّ بالضرورة عن تباعد. عندما نقول بأن تباعد حقل الجاذبية في حيزٍ ما هو صفر، نُدرك مباشرة أن ذلك الحيز فارغ تماماً من وجود الكتل والأجسام؛ هل يُمكنك الحديث عن احتمال آخر؟

لنأخذ منطقة من الفراغ تحوي داخلها كتلة ما. برأيك هل يجب أن يكون تفرق الحقل موجب أم سالب أم معدوم في هذه الحالة؟

اما الان لنطرح السؤال التالي: هل يُمكن لمفهوم التباعد أن يُعمم إلى ما هو أبعد مما سبق، هل يُمكن أن أقوم بإسقاطه على مجالات أخرى؛ أو على الأقل استخدامه من أجل وضع قوانين تُساعدني في التنظيم؟

في شوارع المدن مثلاً، من المهم جداً أن نحافظ على تنظيم السير في الشوارع ونتفادى الزحام فيها؛ وإذا ما أردت الاستعانة بمفهوم التباعد: يُمكننا القول مباشرةً بأنه يجب المحافظة على "تباعد" مساوٍ للصفر بالنسبة لمسارات السيارات على الطرق السريعة والشوارع المهمة؛ أي يجب ان تكون هذه السيارات في حالة حركة مستمرة ودون أن تتوقف في تلك الشوارع لتخلق بالتالي تباعداً سالباً يؤدي إلى زحام شديد واختناقات مرورية.

أو مثلاً: هل يُمكنك مناقشة "تباعد" حقل مسارات السيارات في مرآب ما؟ هل يُمكنك الاستعانة بمفهوم التباعد الذي وضعناه هنا من أجل مناقشة الحالة التي تكون فيها إشارة المرور خضراء وأيضاً عندما تكون حمراء؟ إذا أمكنك ذلك، لن يكون لديك أي مشكلة مع مفهوم التباعد أبداً!

ملاحظات:

• عند نقاش مفهوم التباعد في الحالة الخاصة بتنظيم السير في المدينة افترضنا للتبسيط أن حقل سرعة السيارات الموجودة في شارع ما هو حقل (مستمر وقابل للاشتقاق دوماً) وذلك لكي نتمكن من استخدام هذا المثال في شرح مفهوم التفرق، فربما يكون الشارع فارغ تماما.

• في كل ما ورد في المقال وخصوصاً حالة حوض الجلي: افترضنا الحالة المثالية تماماً، فلم نتطرق إلى تعقيدات الاضطراب مثلاً أو الطبقة الحدية أو غيرها من الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن ذلك الموضوع في إطار ميكانيكا الموائع.

• الإشارات المتعلقة بالسالب والموجب هي إشارات اصطلاحية اُقترحت من قبل العلماء.

مراجع للاستزادة:

- Laplace's Equation and special functions: D R Bland; university of Manchester

- Introduction to Electrodynamics (4th Edition): David J. Griffiths