الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

علم الكونيات والمنهجية العلمية

ماذا يمكن أن يتعلم الفلاسفة من تاريخ علم الكون؟ كيف يمكن لفرع من الميتافيزيقيا، أن يصبح في في نهاية المطاف، نظرية علمية؟ سنعود في مقالنا الحالي إلى المشاكل الثلاث التي تحدثنا عنها سابقاً لنضعها في سياق نقاشاتٍ فلسفيّة ومنهجيّة أوسع.

بداية دعونا نلخص بعضاً من عناصر علم الكونيّات الحديث. و دعونا نبدأ بالقول بأنّ معرفتنا عن الكون قبل ما لا يزيد عن مئة سنة لم تكن متقدمة عن معرفتنا عنه في العصر الحجري سوى بمقدار قليل جداً، حيث كانت الأفكار الإغريقية القديمة عن الكون ما زالت سائدة. أما اليوم، فلدينا شعورٌ بأنّ هذه المعرفة الرصديّة للكون أصبحت تتوضح وتتقارب شيئا ما.

كيف أصبح هذا ممكناً؟ طبعاً بوساطة تكنولوجيا التيليسكوب.

التليسكوب أتاح لنا فرصة رؤية خطوط مختلفة في الكون. نحن نعلم أنَّ الكون مبني من مجرات عديدة، مثل مجرة درب التبانة، كل مجرّة تحتوي على حوالي عشرة مليارات نجم. من خلال هذا الكون من المجرات بمقدورنا أن نرى كيف تغيرت الأشياء بمضي الوقت، لأنّ الروعة تكمن بأنَّ الضوء يسافر في وقتٍ محدود.

إذاً كلما نظرنا أبعد، كلما استطعنا الغوص في الماضي البعيد. أي أنَّ بامكاننا أن ندرس الكون كما كان من قبل وكما هو في مختلف الاتجاهات. نحن نعلم بأنّ الكون يتألف من مجرات متماثلة نسبياً، ولذلك نستطيع القول بثقّة أننا نستطيع تعميم دراستنا لجزءٍ من الكون على الكون كله.

بالعودة الى المشاكل التي وقفت في طريق علم الكون، أول مشكلة منهجية تحدثنا عنها كانت:

كيف يمكننا استقراء القوانين الطبيعية الحالية، للاستدلال عن بداية الكون؟

لمعالجة هذه المشكلة يمكننا تبني وجهة النظر الفلسفية التي قدمها الفيزيائي بوندي والمدافعون الآخرون عمّا يدعى "الكون الثابت المستقر"، التي ظهرت عام 1950، والتي أسموها " المبدأ الكوني المثالي". يقول هذا المبدأ بأنّ الكون متجانس في قوانينه الماديّة. لكن هذا الكون الثابت المستقر، والذي صيغ في إطاره المبدأ الكوني المثالي، قد دحض بالأدلة التجريبيّة منذ فترة طويلة لصالح فكرة أن الكون يتغير بمرور الوقت، وخاصة بعد اكتشاف إشعاع الخلفية الميكروي الكوني وقد حصل مكتشفاه آرنو وبنزياس على جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف. ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الإشعاع هو من نتاج المرحلة المبكرة من تطور الكون قبل تشكل النجوم والكواكب. عندما كان الكون أكثر حرارة وكثافة، وممتلئاً بوهجٍ تشكل من بلازما نوى الهيدروجين. مع توسع الكون، كل من البلازما والاشعاعات التي تملؤه أخذت تبرد. وكل هذا كان يعني أن حالة الكون متغيرة وليست ثابتة.

ومع ذلك، هذا لا يعني نهاية التأملات الفلسفية في قوانين الطبيعة في علم الكونيات. على العكس، المشكلة تبقى ملحة، فقد دفعت الفلاسفة والفيزيائيين، لإعادة النظر في مفهوم القوانين في علم الكونيات. مثال عن ذلك، الفيزيائي لي سمولين الذي طرح رأي يسمى "الانتقاء الطبيعي الكوني"، حيث يقول بأننا يجب أن نتوقف عن التفكير بأن القوانين الطبيعيّة خالدة وأبديّة، وأن نتبنى الرأي القائل بأنّ القوانين لها تاريخ، وتطورت مع كوننا.

تقول فرضية "الانتقاء الطبيعي الكوني" بأنّه في أنحاء الكون، عندما يتشكل ثقب أسود ما نتيجة للانهيار الثقالي للنجم فأن كوناً جديداً ضمن هذا الثقب الأسود يتشكل بحيث تكون قوانينه وثوابته الفيزيائية مختلفة قليلاً عن الكون الأصلي. وتوجد عدة فرضيات تقول بأن كوننا قد يكون حالة مشابهة ( راجع المقال هنا ).

إذا اعتمدنا مبدأ الانتقاء الطبيعي الكوني، فإن مشكلة القوانين الطبيعية تختفي، فليس من المفاجئ أن كوننا محكوم بقوانين معينة دون غيرها، فهذه القوانين نشأت و تطورت مع تطور كوننا.

المشكلة الثانية مع علم الكونيات التي اطلعنا عليها في المقال السابق، هي تفرد موضوع دراسة علم الكون والمشكلة المحددة التي تفرضها على قابلية الاختبار في علم الكونيات.

المفتاح لأفكارنا في النظرية العلمية، هو القدرة على التجربة واختبارعينات متعددة من نفس النوع وفي ظروف مختلفة. ولكن في علم الكون لدينا كائن واحد فقط لندرسه، وهو كوننا، وليس هناك من الأشياء مايمكن مقارنتها مع الكون.

لكن يبدو أن "مقياس قابلية التكذيب" لكارل بوبر، بمكن أن يقدم حلاً هنا.

يؤمن بوبر أنَّ المنهج العلميّ يجب أن يتبع الطريقة الاستنتاجيّة، حيث يعتمد مبدأ قابلية التكذيب والبحث على الحالة التي تؤيد عكس الافتراض المطروح، فالفرض الذي لم يجد ما يدفع إلى تكذيبه يصمد ويبقى، والعكس بالعكس.

إذا كان مبدأ قابلية التكذيب هو في الواقع منهج العلم، فإن تفرد كوننا لا يشكل أي عقبة لعلم الكونيات. كل ما هو مطلوب من علم الكونيات هو افتراض واحد، والذي يمكن اختباره وإثبات خطئه، والذي دعاه بوبر "مكذب احتمالي".

المشكلة المنهجية الثالثة هي الوصول المقيد إلى ما يمكننا رصده بوساطة "مخاريط الضوء- الماضي" للأرض الآن.

هي مجموعة النقاط عبر الزمان والمكان التي يمكن لنا رؤيتها. فسرعة الضوء محدودة وعمر كوننا محدود فلابد أن المسافة التي يمكننا رؤيتها حتى الان محدودة أيضاً ولا يمكن أن نرى أجساماً تبعد عنا مسافة يحتاج الضوء لقطعها وقتاً أطول من عمر كوننا الحالي. ولدى تمثيل هذا المفهوم بمخطط للزمان والمكان كما نرى في الصورة فالشكل البياني النتاج هو مخروط. في كل نقطة أو لحظة نعيشها هناك مخروط الماضي (أي الاحداث التي يمكن أن نراها) ومخروط المستقبل (أي الاحداث التي يمكن أن نعيشها) فمثلاً لا يمكنك خلال دقيقة أن تؤثر على جسم يبعد عنك مسافة يستغرق الضوء دقيقتين لقطعها. لذلك هناك أحداث لا يمكن وجودها مستقبلاً إلا بعد لحظات معينة.

قد تكون هناك نماذج عديدة ومختلفة من الزمكان غير مميزة وغير قابلة للرصد، ولكن كلها متوافقة مع نفس أحداث مخروط الضوء الماضي، فعلى سبيل المثال إذا كان هناك مراقب ما ينظر الى أحداث المخروط الضوئي الماضي الخاص به، فإنه لن يكون قادراً على أن يقول في أي من هذه النماذج الزمكانية المختلفة يعيش في الواقع.

يوضح جون نورتون المشكلة كما يلي: نحن كمثل النمل على ورقة مسطحة لانهائية، لايمكننا أن نتفحص إلا حوالي 10،000 متر مربع حولنا. ولذلك فنحن غير قادرين على معرفة ما إذا كان الزمان والمكان الذي نعيش فيه، هو في الواقع مسطح بلا حدود أو منحني مثل اسطوانة قطرها كيلومترين مثلاً.

لذلك بواسطة مخاريط الضوء الماضي، من المحتمل أن نستقرء ونخمن عدة نماذج زمكانية غامضة ومختلفة جداً، لكن، ليس هناك من حقائق ستجعل تخمينا ما أكثر شرعيّة من أيّ تخمين آخر.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا