الرياضيات > الرياضيات

نظرية الفوضى..ما علاقتها بانهيار Jurassic park؟

كلنا نعرف الفيلم المشهور حديقة جورسيك (Jurassic Park) والمشهد الذي تقوم به شخصية إيان مالكوم (Ian Malcolm) والتي قام بها الممثل جيف غولدبلوم (Jeff Goldblum) بشرح نظرية الفوضى للدكتورة ساتلر (Sattler) والتي قامت بدورها الممثلة لورا ديرن (Laura Dern) حيث قام بسكب بضع قطرات من الماء بين مفاصل أصابعها قائلاً: (إن الاختلافات الصغيرة جداً، اتجاه الشعيرات على يدك، كمية الدماء التي تمر في الأوردة تسبب تضخمها قليلاً، كل هذا يؤثر إلى حد كبير بالنتيجة) فكل هذه العوامل منعت قطرات الماء أن تجري كما كان من المتوقع لها.

ماذا حدث في Jurassic Park ؟

مالكوم (Malcolm) يعزو هذه التنبؤ إلى الفوضى، كما كان يفعل عندما يحدث أي شي غير متوقع طوال الفيلم، وكان يتباهى بهذا النظام الرياضي على أنه برهان أكيد بأن الحديقة سوف تخرج عن سيطرة القائمين عليها.

طبعاً هو محق بشأن التنبؤ بانهيار الحديقة، ولكن هل كانت نظرية الفوضى هي حقاً السبب؟ من الممكن أن نتسبب الآن بإفساد سحر الدكتور مالكوم، دعونا نكتشف معاً الحقيقة الرياضية لنظرية الفوضى ودورها – إن كان هنالك دور – في انهيارالحديقة.

ما هي الفوضى؟

إن نظرية الفوضى هي جزء من دراسة أوسع ألا وهي الأنظمة الديناميكية، التي توصف بأنها نماذج رياضية تعبر عن تغيير الكميات بمرور فترات زمنية.

على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يُنشئ نظاماً ديناميكياً من أجل مجموعة من الحيوانات المفترسة (ولتكن فرضاً الأسود ) ومجموعة من الفرائس (ولتكن مثلاً الماعز) على جزيرة ما في بداية كل شهر.

هذا النظام سوف نعبر عنه بالتابع (f(x،y الذي يأخذ رقمين x ، y مدخلات له، ويكون خرج التابع رقمين أيضاً، أي يكون شكل المعادلة مثلا:

)f(10،20) = (12،18

وهذا يعني أنه لو كان لدينا 10 أسود و20 ماعزاً في بداية شهر كانون الثاني، فسيكون هناك 12 أسد و18 معزة في بداية شهر شباط.

وإذا أخذنا الزوج (12،18) وقمنا بإدخاله للتابع (f(x،y مرة أخرى، هذا سيعطينا التعداد الجديد في بداية شهر آذار، وبإدخال النتيجة مرة أخرى إلى التابع (f(x،y نحصل على التعداد في بداية شهر نيسان وهكذا دواليك.

وبشكل عام، بحسب السيناريو الذي يريده الشخص من النظام أن يوصفه فإنه يختار عدد المدخلات، وكذلك الخطوة الزمنية ممكن أن تكون أشهر كما في مثالنا السابق، أو ميلي ثانية !!

وبغض النظر، إن كانت p تعبر عن حالة النظام في مرحلة زمنية معينة، فإن (f(p ستعبر دائما عن حالة النظام في الخطوة الزمنية التالية، وديناميكية النظام سوف يعبر عنها بتسلسل الحالات التالي:

...، )))P، f(p)، f(f(p))، f(f(f(p)))، f(f(f(f(p

مثال بسيط:

لنبسط الأمور أكثر، لنتخيل أن لدينا نظاماً يمكن توصيفه بتابع لمتحول واحد:

)f(x)= 2x(1-x

حيث x يمكن لها أن تأخذ أي قيمة بين الصفر والواحد.

ماذا سيحدث لو أننا أعطينا x قيمة معينة ما، وثم طبقنا الناتج على المعادلة (f(x مرة أخرى وهكذا؟ لتكن x= 0.25 على سبيل المثال، سيصبح لدينا:

f(0.25) = 0.375

f(0.375) = 0.46875

f(0.46875) = 0.499992

f(0.499992) = 0.499999999872

وهكذا نجد: لو أن النظام بدأ بالحالة حيث x= 0.25 سوف تقترب قيمه أكثر فأكثر من الحالة5.0 كلما تقدم الزمن.

في الحقيقة، نفس الشيء سيحدث لو أنx أخذت أي قيمة بدائية: مهما كان عدد المرات التي سنطبق التابع (f(x فيها على أي قيمة بدائية بين الصفر والواحد (ولكن ليست مساوية تماماً لأي من الصفر أو الواحد)، فسوف ينتهي به الأمر إلى منتصف المجال بين الصفر والواحد.

مثال أصعب قليلاً:

التابع (f(x) = 2x(1-x مثال على أحد الأنظمة الديناميكية، ولكنه ليس مثالا على الفوضى.

دعونا نقوم بتعديلات قد تبدو بريئة، وبذلك يتشكل لدينا التابع الجديد

)g(x) = 4x(1-x

سنجد الآن أن الوضع أصبح مثيراً للاهتمام أكثر، فمن أجل بعض القيم التي نسميها (نقاط ثابتة)، سوف تجعل التابع (g(x يبقى ثابتا في مكان ما:

g(0.75) = 0.75

g(g(0.75)) = 0.75

g(g(g(0.75))) = 0.75

وهكذا دواليك.

ويمكن أيضاً أن يبقى ثابتا بحلقة لا تنتهي عندما يستمر بالقفز إلى الأمام وإلى الخلف بين قيمتين إلى أجل غير مسمى.

على سبيل المثال، لنأخذ التقريب العشري للقيمة الابتدائية التالية:

≈ 0.90451

و إذا طبقنا التابع عليها سوف تعطينا:

g(0.90451) = 0.3459

g(0.3459) = 0.90451

g(0.90451) = 0.3459

و هكذا..

هذه الحلقة التي ياخذ فيها التابع قيمة ثابتة طولها 2، لأنها ثبُت بين قيمتين، ولكن يمكن أن يكون طول الحلقة 3 أيضاً، حيث سيبقى التابع (g(x يدور على ثلاثة أرقام مختلفة إلى أجل غير مسمى.

في الحقيقة، هناك قيم ابتدائية ل x حيث ستكون قيم التطبيقات المكررة ل (g(x أكثر من ذلك وبذلك يمكن أن يكون طول الحلقة أكبر.

إن حساسية اختيار القيم الابتدائية هذه يُعرف بالمصطلح (تأثير الفراشة).

وبالإضافة إلى كل هذه الاحتمالات، لا يزال هناك الكثير من الممكن أن يحدث. هنالك بعض القيم الابتدائية ل x التي لا تسبب تكراراً على الإطلاق، ولا تسبب لقيم التابع أن تتجه إلى حد معين كما لاحظنا في سلوك التابع (f(x. بالأحرى سنلاحظ أن قيم التابع ستقوم بقفزات واسعة، فقيمها لن تستقر أبداً.

الأمر الذي يجعل النظام الديناميكي الذي يوصف بالتابع

(g(x) = 4x(1-x

مثيراً للاهتمام أكثر، في الحقيقة – الأمر الذي يجعله فوضوياً فعلاً- ليس فقط وجود هذه الأعداد التي لا تحصى من الاحتمالات، لكن أيضاُ أننا لا نستطيع نميز بينها.

إن قيمتين ابتدائيتين ل x الفرق بينهما هو0.000001 فقط سوف يؤدي إلى سلوك التابع (g(x لمسارين مختلفين تماماً لكل منهما بعد عدة فترات زمنية فقط.

فلننظر بأنفسنا ماذا سيحدث لو أن القيمة الابتدائية كانت x= 0.9 بدلاً من x=0.90451 ، سنجد أن نمط التكرار سوف يستبدل بسرعة بآخر لا يمكن تمييزه.

هذه الخاصية التي يتمتع بها التابع (g(x تسمى (حساسية الشروط الابتدائية)، وهي أحد الخواص التعريفية للفوضى، وهي ما كان الدكتور مالكوم يحاول شرحه عندما قام بتجربة قطرات الماء على يد الدكتورة ساتلر في أحد مشاهد الفيلم Jurassic Park.

إن عواقب حساسية كتلك التي تحدثنا عنها في عالمنا الحقيقي مدهشة فعلاً. لنفترض أننا نريد أن نتنبأ بالحالة المستقبلية لنظام ما – وليكن الطقس على سبيل المثال – وكان هذا النظام يمتاز بحساسيته للقيم الابتدائية. يمكننا أن نقيس الحالة الابتدائية، ثم نقوم بتطبيق التابع الذي يحكم نظامنا على القيمة الابتدائية لبضعة دورات (فترات زمنية) تالية.

هذه سيعود علينا بنتيجة، ولكن إن كان قياسنا لحالة النظام الحالية غير دقيق بعض الشيء، ستكون النتيجة بعد بضعة فترات زمنية مختلفة جدا ً.

وبما أن الحصول على قياس تجريبي بدقة 100% ليس ممكناً، هذا سيُفقد القدرة التنبؤية لهذا النموذج بعد بضعة فترات زمنية أهميتها.

إن الاسم الأشهر لهذه الظاهرة هو (تأثير الفراشة)، وقد استُوحَى هذا الاسم من مقال نشره رائد نظرية الفوضى إدوارد لورنز (Edward Lorenz) عام 1972. الأمر المثير للدهشة أن عدم القدرة على التنبؤ ينشأ من نظام ديناميكي: التابع الذي يصف النظام يخبرنا تماماً ما ستكون القيمة التالية له. لا يترُك شيء للعشوائية أو للصدفة، ومع ذلك فإن التنبؤات الدقيقة لا تزال مستحيلة. ولكي يصف هذا الوضع، استخدم لورنز كلمة الفوضى: نستطيع أن نحدد المستقبل من قيم الحاضر، ولكن العكس ليس صحيح فإن كانت قيم الحاضر تقريبية فهي لا تعطينا قيم تقريبية للمستقبل.

إن الديناميكيات الفوضوية موجودة في كثير من الظواهر، من حركة السوائل إلى تعداد الحشرات وحتى مسارات الكواكب في النظام الشمسي.

هل يمكننا أن نلوم الفوضى دائما؟

إن الشيء الصحيح الوحيد الذي استطاع الفيلم Jurassic Park أن يقدمه بالرغم من صورته الرخوة الواسعة عن الفوضى، هو الاقتراح بأنها يمكن أن تنشأ من انهيار النظام بشكل تدريجي.

إن التابعين (f(x و(g(x على سبيل المثال هما عضوان من عائلة التوابع

(hr(x)= rx(1-x

حيث r هو ثابت لا على التعيين.

لو كان بإمكاننا أن نتخيل قرص دوار مثل قرص الهاتف عليه مجموعة قيم وأن r يأخذ قيمة منه حيث بإمكاننا أن نعدل قيمته فلا تكون ثابتة، فإذا زدنا قيمته إلى قيمة أعلى من r= 2 سيجعل هذا ديناميكية التابع أكثر تعقيداً ولكن لن يجعله ذلك فوضوياً بعد. ثم عند قيمة محددة ل r ولتكن تقريباً مساوية ل 3.56995 فإن كارثة ستحدث وستنشأ الفوضى بشكل مفاجئ.

ولكن يبقى الدكتور مالكوم واثقاً جداً بأن نظرية الفوضى كانت السبب وراء الانهيار المأساوي ل Jurassic Park. بينما تفيد نظرية الفوضى في الحقيقة قدرة المرء على التكهن، فهناك العديد من التفسيرات المحتملة وراء الأشياء التي تحدث ونعجز عن التنبؤ بها في الطبيعة.

هناك الكثير من الأنظمة المعقدة بشكل كبير جداً في عالمنا. إذ غالباً ليس من الصحة أن نقول أن تعداد الأسود والماعز الموجودين على جزيرة ما في شهر معين كافٍ لتحديد أعدادها في الشهر القادم، بل هنالك الكثير من العوامل البيئية الأخرى تُأخذ بعين الاعتبار: وجود حيوانات أخرى على سبيل المثال، أو الأمراض، أو تواجد الغذاء الكافي من أجل الفرائس.

هذا لا يعني أن علاقة المفترس-الفريسة لا يمكن نمذجتها في نظام رياضي ديناميكي، ولكن تعني أن النظام ربما يحتاج إلى الكثير والكثير من المتحولات.

و طالما فتحنا هذا الباب على أنفسنا، كيف يمكن للمرء أن يعرف أنه قد أخذ العديد من العوامل الفعالة بعين الاعتبار؟ وهل من الممكن أن تُقاس جميع العوامل وتكون قيم قياسها صحيحة؟

هذه المشاكل التي تنشأ في الأنظمة المعقدة يمكن أن تقود لعدم قدرة على التنبؤ تجريبياً حتى بوجود الفوضى.

هنالك سبب آخر محتمل لعدم القدرة على التنبؤ ألا وهو العشوائية البحتة.

عند الحديث بشكل عام، غالباً ما يخلط الناس بين مفهومي الفوضى والعشوائية، ولكنهما رياضياً مفهومين مختلفين تماماً.

كما يقول لورنز فالنظام الفوضوي محدد وحتمي، فحالته المستقبلية من حيث المبدأ تحدد بالشروط الحالية.

أما عندما يكون لدينا عشوائية، فلن تلعب الحتميات أي دور.

هناك ميزة أخرى للنظام الفوضوي تستحق الذكر ولو أنها ليست ذات صلة مباشرة بموضوع عدم القدرة على التنبؤ، وهي إمكانية تمييز النظم الفوضوية عن تلك العشوائية.

بالنسبة للفوضى أو العشوائية، فإن هناك بعض القيم الابتدائية التي تتطور في مسارات إما مكررة أو ثابتة لا تتغير.

في النظام الفوضوي هذه الحركة الشاذة تبين شكل بنيوي غاية في الإتقان، وإن المصطلح لهذا النوع من الأشكال يسمى، الجاذب الغريب، ويأتي ذكره سريعاً في الفيلم Jurassic Park.

هذه الصورة (في الاسفل) تظهر مثال عن الجاذب الغريب والذي ينشأ من نظام ديناميكي يأخذ دخلاً مؤلفاً من ثلاث متحولات ويرد ثلاث قيم (خلافاً للتابع الذي يأخذ متحولاً واحد والذي تحدثنا عنه سابقاً)، إذاً تطور قيمة ابتدائية معينة مع الفترات الزمنية يمكن تخيله على أنه مسار في فضاء ثلاثي البعد. وهذا الشكل الجميل الذي نراه ينشأ تدريجياً على طول مسار فوضوي وذو نتائج متباعدة. وهذا التنميط اللطيف وسط الاضطراب الواضح ما هو إلا أحد المفأجآت العميقة لنظرية الفوضى.

عودة إلى Jurassic Park

إذاً هل تعتقدون أن الفوضى كانت السبب وراء دمار Jurassic Park كما توقع الدكتور مالكوم؟ ربما نعم، ربما لا.

إن الأحداث في الفيلم غالباً ما كانت تتطور بطريقة لم تكن بالحسبان، ولكن لم يتم تقديم أي سبب محدد لنا لنعزو عدم القدرة على التنبؤ هذه إلى الفوضى بدلاً من التعقيد أو العشوائية.

بطريقة ما هذا يضعف مصداقية شخصية الدكتور مالكوم في الفيلم، وعلى مستوى آخر هذا يؤثر بشكل مباشر على النقطة التي كان يؤكد عليها طوال الفيلم.

إن الفهم الكامل لنظام ديناميكي ما كما ينشأ في الطبيعة أمر غاية في الصعوبة، كما أن نوعية أنظمة كهذه – سواء رتابتها أو عشوائيتها، فوضويتها أو تعقيدها- نادراً ما تكون واضحة وصريحة.

فعلى المرء أن يكون حذراً، فلا يخطئ بدرجة فهمه للأمور، حتى لو بدت بسيطة وظن أنه يمكن التنبؤ بها دائماً. إن الثقة بمستقبل معظم الحالات الديناميكية، كما تم عرضها من خلال شخصية جون هاموند (John Hammond)، علامة ليس فقط على عدم الفهم وإنما على الغطرسة.

المصدر:

هنا